لغة الشتيمة عبر الفضاء الإلكتروني
المتابع للحوارات والمداخلات والتعليقات التي تدور على مختلف المنابر الإعلامية، والمنابر الجديدة على وجه الخصوص، يجد فيها ما هو موضوعي، ويتسم بالهدوء الروية، حيث أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي نقطة التقاء وتواصل وتعارف بين الثقافات المختلفة، والتفاعل الخلاق فيما بينها، وفرصة لبناء العلاقات الإنسانية الطيبة، بالإضافة إلى ما أتاحته من إمكانية متابعة الأحداث والتطورات لحظة بلحظة، والتفاعل معها، والتعليق عليها، والمشاركة في طرح الأفكار، وإبداء الرأي.
غير أن هناك حوارات أخرى تبتعد عن الموضوعية، وتتسم بالانفعال والتشنج، ويسودها العنف اللغوي. فما أن يُطرح موضوع، أو تثار قضية مختلف عليها، حتى تتصاعد حالة التوتر، ويتحول المتحاورون إلى أعداء يتقاذفون السباب والشتم والقدح والذم والتحقير والكلمات النابية التي تجرح المشاعر، وتبث سموم التحريض والشقاق والفتن، وتصب الزيت على النار المتأججة.
فهؤلاء إذ يخرجون عن موضوعات الحوار يدخلون في السير الذاتية لبعضهم البعض، وكلٌ يطعن في سمعة الآخر، ويخلع عليه الألقاب السيئة والمهينة، ويشكك في أصوله ودينه وقيمه ونواياه، بل ويتهمه بالخروج عن الملة والدين وخيانة تعاليمه، فضلاً عن تبادل الاتهامات بعدم الولاء للمجتمع أو الوطن أو الأمة، والسعي إلى تأليب الناس عليه.
أحياناً ينحرف الحوار عن القضايا والموضوعات المطروحة للنقاش، ويتم التركيز على أمور وقضايا فرعية وهامشية ليس لها علاقة بجوهر الموضوع، أو القضية، التي يتم البحث فيها. وفي أحيان أخرى ينفجر الحوار وتهبط لغته إلى الحضيض حين يتم نقاش موضوعات وقضايا ذات أبعاد دينية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو حزبية، يختلف الناس حولها، حيث يبتعد الحوار عن الموضوعية، ويتحول إلى سجال ومناكفات وتبادل للاتهامات، ويدخل في الخصوصيات الشخصية، في محاولة من كل طرف اصطياد نقاط ضعف خصمه، والتمكن منه، وإبهاته، وإسقاطه.
والسؤال لماذا تنعدم القدرة على الحوار الهادئ والإيجابي والمتوازن، حتى إذا ما اختلف اثنان ينفجر الحوار بالشتائم المتبادلة، وكأن قنبلة كانت موقوتة تنتظر الانفجار؟
وإذا كانت ظاهرة الشتيمة حالة منتشرة في الحياة الواقعية، فإن انتشارها في الواقع الافتراضي هو أضعاف مضاعفة، وكأن الناس كانت تعيش في أماكن مغلقة ومعزولة، وما أن فتحت لهم الأبواب والنوافذ، وتذوقوا شيء من طعم الحرية الافتراضية، انفجر ما هو مكبوت في النفوس من دون ضوابط أو قيود.
وهكذا حين يخرج الحوار عن موضوعيته، ينفجر المكبوت في النفوس، فتخرج ذخيرة الشتائم التي تختزن في الدواخل، ويتحول الحوار إلى لغة الشتيمة، ويتم تبادل العبارات الجارحة والمهينة والبذيئة بتلذُّذ ومباهاة. فكلٌ يتهم الآخر ويهجوه بالخيانة أو العمالة أو التآمر، أو أنه رجعي أو سلفي أو ليبرالي أو جاهل، أو بغيرها من العبارات والمفردات التي تعبر عن مدى هبوط لغة الحوار، وانحداره، وعدم موضوعيته.
وحسب رأي أحمد برقاوي، "فإن القراءة المتأنية للخطابات على صفحات التواصل الاجتماعي تدل على كيفية تحول خطاب الشتيمة السياسية والأيديولوجية نمطاً مألوفاً للتعبير عن الاختلاف. ومما يزيد من انتشار هذه الظاهرة أن الشاتم في مأمن من المشتوم جسدياً، كما إنه عبر اسمه المقنع، والاختفاء خلفه، يتصرف كشخص خفي لا يراه أحد.
ومن المفارقات الغريبة كما يضيف برقاوي، أن يتحول المثقف إلى ظاهرة رعاعية عنفية سادية يتوسل الشتائم المقذعة وسيلة للتعامل مع المختلف، وهو الأمر الذي يدل على الخطر المدمر والشنيع لعملية تحطيم القيم التي تجري على امتداد وقت طويل، وصعوبة استعادة هذا العالم المدمر.
ولهذا لا يعبر خطاب الشتيمة عن نفسية شجاعة، بل عن نفسية تخاف من مواجهة الآخر. كما لا يعبر عن عجز نفسي وأخلاقي فحسب، وإنما عن عجز معرفي أيضاً وتعويضاً عن هذا العجز. ففي الوقت الذي تتطلب فيه قضية ما نقاشاً فكرياً وسياسياً جاداً، ويتطلب هذا النقاش بدوره حظاً ضرورياً من المعرفة فإن الشاتم شخص تنقصه الحجة المعرفية ولا تتوافر لديه مفاهيم الحوار النظرية، فيعبر عن فقره المعرفي والنظري والمفهومي بلغة الشتيمة. فيهرب إلى سد باب الحوار والتخلص من عجزه المعرفي ببضع كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع. وهكذا تكتمل دائرة سيكولوجيا المثقف الشتّام من العجز النفسي، إلى العجز الأخلاقي، إلى العجز المعرفي". «1»
لقد أضحت الخطابات المتشنجة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي غير مقتصرة على فئة دون أخرى، إذ أن «أخطر ما في خطاب العنف المستشري عدم اقتصاره على العوام، بل انخراط قادة رأي وكتّاب وإعلاميين وصنّاع رأي عام من تلك الشريحة المسماة نخبة، في الترويج له والحضّ عليه، عِوَض مساهمة هؤلاء في الدعوة الى تغليب لغة العقل والحوار والتسامح، وقبول الآخر المختلف، والبحث عن مكامن ضوء وكوى خلاص مما نحن فيه من خراب وعيٍّ وعقل ومنطق، ما يهدّد بتفكيك مجتمعاتنا وتفتيت نسيجها الوطني، وتحويلنا حتى عقودٍ مقبلة مجرد مِللٍ ونِحلٍ متناحرة، وقبائل وشعوباً نتذابح عِوَض أن نتعارف، بما يعنيه التعارف هنا من تفاعل وتلاقح وتناغم واستيلاد معارف جديدة وقيم، تسعفنا في الطريق نحو تنمية حقيقية وعدالة اجتماعية وحرية تكفل حق الجميع بلا استثناء في العيش بكرامة وسلام. » «2»
كم هو مؤسف حقاً أن بعض تلك الحوارات الهابطة لا تجري بين أفراد عاديين من عامة الناس، وإنما تتم بين أفراد يحسبون من النخبة، وأصحاب الأفكار، أو الناشطين في بعض المجالات، وهم من يفترض أن يكونوا قدوات بين عامة الناس، والنموذج الذي يتحدى بهم. فإذا لم يكونوا النموذج الأخلاقي الرفيع في أدب الحوار وأسلوبه ولغته، فكيف إذاً يقتدي بهم الناس، ويقتبسون من أفكارهم، ويهتدون بسلوكهم؟