وأفِل في الاحساء نجم
في عزيمتك وأنت تحاول أن تكتب عن الاحساء وعن رجالاتها تشدك من كل أطرافها فهي غنية في كل جوانبها سواء في أهميتها التاريخية أو الجغرافية أو الاقتصادية وغير ما ذكر من الجوانب، ولا أريد هنا أن أعيد وأكرر ما ذكرته في كتابات سابقة أو ذكره غيري من كلمات ومقالات وبحوث وأرقام فيما دوّن في الاحساء بقدر ما أريد تسليط الضوء على شخصية احسائية رحلت عن عالمنا بعد أن قدمت لنا الكثير من عطائها وجهودها وعلمها وأدبها.
تلك الشخصية وذلك الشخص العملاق هو الأديب شيخ المؤرخين «الحاج جواد بن حسين بن محمد بن حسين بن الشيخ علي الرمضان، ولد هذا المؤرخ في الهفوف في اليوم الأول من شهر رجب سنة 1355هـ الموافق ليوم الخميس 179 1936هـ.، وتوفي والده وهو في سن الثامنة من عمره أي في حدود سنة 1363هـ» «1»، وفي مصدر آخر وعلى لسان الشيخ جواد أن والده توفي وله من العمر خمس سنوات» «2».
ختم القرآن في السنة السابعة من عمره عند المرحوم الحاج عبد الله بن صالح العامر، وهاجر إلى البحرين مع أخوته لأول مرة في حدود عام 1369هـ وأقام بها تسع سنوات دارساً وعاملاً في خياطة البشوت، بعد هذا التاريخ انتقل إلى سوريا وبقى بها ما يقارب العشر أعوام.
بعد رجوعه إلى الاحساء بدأ البحث والاهتمام بكتب التراث والأدب «وبالتحديد عام 1390هـ حيث كان بداية مرتبط بالبحث عن تراث أسرته العلمي والأدبي» «3».
وهذا مما يميز شخصيته «رح» فهو محب للبحث والاطلاع والقراءة في كل المجالات على الرغم أنه اشتهر بالتاريخ، ظل باحثاً لأكثر من أربعين عاماً بل خمسين أو تزيد، فهذا رفيق دربه الدكتور محمد القريني يقول «باقة شكر للمؤرخ والأديب الحاج جواد بن حسين الرمضان على عطائه المميز في المجال المعرفي منذ أكثر من خمسين عاماً من عمره المديد «4».
ومن مميزاته الشخصية أيضاً التواضع الجم ومن الشواهد على ذلك ما نقله الخطيب والكاتب البارع علي محمد عساكر عن الدكتور محمد جواد الخرس قوله «لقد زرته في منزله ليلة الثلاثاء بتاريخ 4 9 1438هـ، وكان ظني أنه سينفتح عليّ بسرد أهم الأعمال التي خرج بها من جولاته الميدانية بأنه لديه قدرة على الرصد التفصيلي حيث له مع كل سطر حكاية لكن في ظل تنكره لذاته استغرب بأن أدوّن حراكه الميداني لأن في نظره هذا أمر لا يستحق التدوين عنه ولم أستغرب من استنكاره لعلمي بتواضعه بل طلب مني عدم المبالغة فيما أكتب عنه» «5».
ومن مشاهداتي وحضوري ومعايشتي لهذه الخصلة فيه أي خصلة التواضع حضورنا في مجلسه المبارك في صباح أيام الجمع من كل أسبوع حيث كان يصر على الوقوف لكل من يحضر سواء أكان صغيراً أم كبيراً والفئات التي كانت تحضر مجلسه علماء أم أدباء أو مثقفين أو غيرهم فكنت إذا حضرت مجلسه رغم أني أصغره سناً وعلماً وأدباً بكثير إلا أنه يقف ويناديني باسمي قائلاً حياكم الله محمد بن محمد! َ!، ولايكتفي بهذا بل كلما تجاذبنا أطراف الحديث مع الضيوف مع كوني لست بجانبه أحياناً في المجلس إلا أنه يرجع ليسألني هو مبادراً عن أحوالي وما هو جديدي؟!
ومن مواقف تواضعه التي لا أنساها تواصله الشخصي بين الحين والآخر فكلما تأخرت عن مجلسه الأسبوعي كان يتصل هو شخصياً ويدعوني إلى الحضور وفي كل اتصال قبل أن يختم بالوداع كان يقول كلمته «لا تقاطعونا».
وحتى قبل التكريم الذي أقامه النادي الأدبي بالاحساء له هو من اتصل عليّه شخصياً وأخبرني وطلب مني الحضور رحمه الله.
وكذلك من سماته الشخصية رحمه الله معرفته بالكثير ومن ضمنها المخطوطات والكتب النادرة ففي أول مرة التقيت به كانت منذ ما يقارب الست سنوات أن لم تخني الذاكرة مع أحد الأصدقاء الذي كان في حوزته كتاباً وكان يظن أن هذا الكتاب بخط جده فقال لنذهب للشيخ جواد ليبتّ لنا في المسألة، فعلاً نسقنا موعداً مع أحد أقارب الشيخ وتم اللقاء وما أبهرني حقاً في الموضوع أن الشيخ «رح» عرف كل شاردة وواردة عن هذه المخطوطة فقد عرف مؤلفها وكاتبها وتاريخها وبأي نوع من الأقلام كتبت!!
فحق لمثل هذا الشخص ومجلسه أن يتوافد عليه وإليه الأدباء والكتّاب والشعراء كما قلنا آنفاً فمن جملة من يحضر هذا المجلس المبارك على سبيل المثال لا الحصر الشاعر الكبير ناجي بن داوود الحرز والشاعر الكاتب محمد بن طاهر الجلواح والمهندس القدير عبدالله بن عبدالمحسن الشايب والكاتب الأستاذ سلمان بن حسين الحجي والمهندس المثقف حسن الجبران والدكتور الكاتب السيد عادل الحسين والكاتب الأستاذ أحمد البقشي والفنان التشكيلي الكاتب أحمد العبد النبي والخطيب الكاتب علي محمد عساكر والشيخ الكاتب محمد علي الحرز، وغيرهم كثير مما لا يتسع المجال لذكرهم.
وكان لي شرف الحضور مرات عديدة في هذا المجلس طيلة الست سنوات الماضية إلا أني وللأسف الشديد انقطعت فترة وإن كانت ليست بالطويلة عن المجلس حتى سمعت بخبر مرضه ولم تستمر المدة طويلاً حتى أتانا نبأ الرحيل المؤلم يوم الأربعاء 27c9هـ، الموافق 11پ8م.
فرحمه الله رحمة الأبرار وجزاه خير الجزاء لما قدم من خدمات جليلة للتاريخ والأدب والعلم والمعرفة وقد نعاه أهل العلم والأدب بكلمات وأبيات ملؤها الحزن والأسى، فقد عبّر الأستاذ محمد الحرز عن ذلك قائلاً «أن الاحساء فقدت رمزاً من رموزها الثقافية وعلماً من أعلام تاريخها، وأما عضو مجلس الشورى السابق الدكتور إحسان بوحليقة، فقال: إن المؤرخ جواد الرمضان تميّز بذات إيجابية رفيعة وقصة من قصص الكفاح والمثابرة وصقل الذات عبر تتبع العلم والمعرفة» «6».
ونختم بالأستاذ الشاعر علي المحيسن حيث أنشد في حق الفقيد قائلاً: -
«حيّاً وشخصك في المجالس يذكر... وربيع فكرك في المشاعر بيدر
خلّدت في دنيا السلام عقيدة... شماء لم تفسد ونهجك مبهر
من منبت النخل الأبي تخلقت... والنخل في الاحساء منك مهجر «7».