النخبة ومسؤولية الكلمة
أشرنا في المقالة السابقة إلى أن ألفاظ السُباب، وتقاذف الشتائم، هو أمر لا يليق أن يصدر من عامة الناس، فكيف به إذا صدر من أهل النخبة، كالعلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين والكتاب؟ فالبعض من هؤلاء لا يتورع في حواراته وأحاديثه وأقاويله عن التلفظ بالألفاظ الجارحة مع من يختلف معهم كي ينتصر لنفسه، أو كي يُلهب قلوب متابعيه ومشجعيه، أو من هم في عداد مريديه، فتراه يسيء إليهم باستخدام مفردات وعبارات وألفاظ غير لائقة، منتهكاً بشكل واضح الآداب الفاضلة، والقيم الحميدة.
ففي الوقت الذي يفترض أن يكون هؤلاء قدوة ومثالاً للآخرين في مبدئيتهم وأخلاقهم، وأسلوب أحاديثهم، ومضمون ثقافتهم، كونهم من النخبة العالِمة، وأصحاب التأثير والكلمة المسموعة، والذين يُؤمل منهم الارتقاء بمعارف قرائهم، وثقافة مستمعيهم، وعلوم مريديهم، إلا أنهم ينزلقون بمتابعيهم، أو أتباعهم، إلى ما هو غير محمود من قيم وأخلاق، ويخاطرون بسمعتهم ومكانتهم بين الناس على حساب ما هو مبدئي وأخلاقي.
وبعبارة أشد وضوحاً هؤلاء الذي هكذا شاكلتهم لا يستثمرون ما لديهم من طاقات خلاقة في الإعلاء من شأن العقل، والرقي بوعي بالناس، ونشر الثقافة والعلم والمعرفة، بل تراهم يسعون إلى شد عصب الناس من أجل توسيع نفوذهم، وكسب المزيد من المريدين والأتباع، واستثمارهم في المنافسات والصراعات البينية، حيث يجري تحويل اهتمامهم كلياً عن القضايا الاجتماعية والحياتية والعلمية والثقافية، وإشغالهم بالاهتمام في القضايا الهامشية والفرعية.
وعلاوة على ذلك ربما يستغلون ما يحدث من أزمات وتوترات من أجل إعلاء اللغة الخاصة بانتماءاتهم الضيقة كي يتبعهم الناس، ويُجيُّرون ذلك لرفع شعبيتهم ومكانتهم، أياً كانت التداعيات والنتائج، وعلى حساب المبادئ والأخلاق والمسؤولية، وهو الأمر الذي دائماً ما يحصل على وسائل الإعلام، وشاشات التلفزة، وخصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تعكس حالة التوتر التي تعيشها بعض المجتمعات.
وفي هذا الصدد ثمة من يرى بأن الإعلام الجديد، ووسائطه المتعددة، أصبحت وكأنها أبواق لهؤلاء أكثر مما هي وسائل تواصل اجتماعي، أو إعلام للمواطنين، حيث يتم من خلالها ترويج الأفكار السلبية بين الناس، وشد عصبهم، والتسبب في توتير الأجواء، وفرز الناس، وخلق الاصطفافات المذهبية والطائفية والدينية والقومية، بعيداً عن تحمُّل مسؤولية الكلمة، والمساهمة في خفض حالات التوتر. بل المشكلة أنهم يتحججون، أو يبررون ذلك، بالحرية الإعلامية، فيما المسؤولية من أهم مبادئ الحرية، إذ أن هناك فرق كبير بين نقل الخبر، أو المعلومة، وبين التهييج الإعلامي.
إنه لمما لا شك فيه بأن التقدم في مجال تكنلوجيا المعلومات الرقمية، واتساع رقعة التواصل وسهولته، قد أتاح لعامة الناس التعبير عن آرائهم، أو ما يجول في ذواتهم، عبر مواقع ووسائط التواصل الاجتماعي، "لكنها في المقابل، تسببت في استدعاء وبروز الكثير من مظاهر العنف والتطرف والتعصب والتمذهب، والتي تفوح رائحتها الكريهة، بين تلك الردود والتعليقات والحوارات، التي يستخدمها الكثير من مرتادي تلك المواقع والوسائط.
وللأسف الشديد، لم يعد هناك قيمة لشرف الخصومة، أو أدب الاختلاف، أو تفهم وجهة نظر الآخر. إذ يكفي أن تكتب فكرة، أو رأياً، أو تقوم بإعادة تغريد لصورة، أو معلومة في تويتر، لا تنسجم مع قناعة البعض، لتُفتح عليك بوابات الجحيم، وتتعرض لوابل من الشتائم والبذاءة، بل وقد يصل الأمر للتخوين والتكفير.
ما يرشح من شتائم وبذاءات في تويتر والفيس بوك واليوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، ظاهرة مرضية خطيرة، وتحتاج إلى تدخل سريع من قبل كل مفاصل ومكونات الوطن، إضافة إلى ضرورة سن وتشريع قوانين وتنظيمات واضحة وحازمة، لوقف كل حفلات الشتائم التي يُمارسها الكثير في مواقع التواصل الاجتماعي". 1
لقد أصبح معيار الانتصار، أو الهزيمة، في مثل هذه الوسائل هو مقدار اللغو في الحديث، ورفع الصوت، وإحراج الخصم وإبهاته، واصطياد نقاط ضعفه. فلم يعد القوي هو من يملك العقل السوي، والفكر الناضج، والمعرفة العلمية والإنسانية، والحجة المقنعة، والمنطق السليم، بل أصبح القوي من يملك القدرة على قهر خصمه بلغة الصوت، واستعمال الألفاظ العنفية. فحين تضعف الحجة يتم التوسل بأساليب الشتيمة والاتهامات والشيطنة، حيث تتراجع في مثل هذه الأجواء القيم العقلية وتتقدم الغريزة، وربما يتحول معها العنف اللغوي إلى اقتتال جسدي.