التفاعل الخلَّاق مع معطيات التقدم الحضاري
عند الحديث عن الإصلاح والتغيير في مجتمعاتنا، ونقد حاضرها، واستشراف مستقبلها، والدعوة إلى بناء مشروع ثقافي جديد، فإن ذلك يأتي تزامناً مع ما يمر به العالم من تقدم تقني كبير فائق التطور، ومتسارع الخطى، ويتسبب في حدوث تبدلات وتغيرات وتحولات سريعة الإيقاع في كل مجالات الحياة المختلفة.
فنحن اليوم نعيش زمن الثورة التكنولوجية والإعلامية والمعلوماتية، وتطور وسائل الاتصال والتواصل بين البشر، حيث ارتفع مؤشر استخدام هذه التكنولوجيا الحديثة بشكل واسع في الدوائر الحكومية، والمؤسسات الخاصة، وفي قطاعات التعليم والطب والبنوك والحسابات المصرفية، وفي غيرها من المجالات المختلفة. بالإضافة إلى مؤشرات هذا الاستخدام الكبير في الحياة اليومية للأفراد، حيث أصبحت الثقافة الرقمية، وتكنولوجيا الاتصال، عنواناً بارزاً للحضارة البشرية المعاصرة.
إن التقدم في مجال الاتصال والتواصل يمر بقفزات مذهلة ومتسارعة الخطى من خلال طفرات تكنولوجيا المعلومات وطرقها السريعة، وشبكاتها فائقة التوصيل، وشبكات ربطها لمختلف نقاط الكرة الأرضية، حيث ألغى هذا الربط الالكتروني، والذي يعرف باسم الفضاء التفاعلي الالكتروني، حدود وقيود الزمان والمكان، فأصبح كل ما على وجه الكرة الأرضية مفتوح على بعضه البعض، ومن دون حواجز أو قيود.
فها نحن نشاهد بأم العين كيف انهارت حدود الزمان والمكان نتيجة هذا التطور التقني، حيث أصبح العالم نتيجة هذا التطور مفتوحاً ومشاعاً للجميع، وهو ما يحتم على المجتمعات التي اخترقتها هذه التكنولوجيا مواكبتها بطريقة خلاقة، لا تعزل نفسها عن هذه التطورات، ولا تُلغي هويتها وتذوب في الآخر، والذي غالباً ما يكون هو المنتج الفعلي للثقافة المتداولة عبر هذه التكنلوجيا، والمروج لها، فيما نحن نقوم بدور المستورد والمستهلك النهم لها.
وفي خضم ما أحدثته الثورة الرقمية من تغيير على وجه هذه البسيطة، لم يعد هناك مجال للعزلة والانزواء والانطواء على الذات، والعيش في جزر معزولة ودوائر مغلقة، أو الركون لما مضى من أزمنة والاستئناس بها، إذ أن «مقاومة التأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، لا يمكن أن تختزل في حركة الارتداد إلى »هوية ثقافية" مرفوعة إلى درجة المثال والمطلق، والتقوقع فيها؛ فالمقاومة في هذه الحالة ستؤول إلى الفشل لا محالة، إذا ما هي جعلت من الرغبة في عدم التغيير، وفي الانسحاب من المنافسة الدولية التي يفرضها العصر، محركها وحافزها الرئيس؛ وإذا ما هي اقتصرت فقط على تبني موقف يكتفي بتحويل الوعي بالحاضر بكل ثقله وتشعباته إلى مجرد شحنات قوية من الحنين الرومنسي إلى الماضي. فمن المهم جداً بالنسبة إلينا أن نفهم آليات الهيمنة الجديدة، وأن نسعى من خلال إمكاناتها ذاتها إلى العمل على تغيير، أو تعديل، أثرها فينا وفي ثقافتنا، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف، ضرورة التسلح وبأدوات ثقافة العولمة ذاتها، في مجالات العلم والمعرفة والاقتصاد والسياسة والحقوق.
إن الوعي بأهمية الحقبة التاريخية التي تجتازها المجتمعات البشرية اليوم، واستيعاب واقع العصر بمختلف أبعاده وتوجهاته، باتا يحتمان علينا الإيمان بحقيقة أصبحت تفرض نفسها باستمرار: إن الحالة السوية والطبيعية لأي ثقافة وأي هوية ثقافية، هي أن تظل قادرة على الانفتاح والتطور والاغتناء والعطاء، وعلى بناء جسور التواصل مع الثقافات العالمية". 1
بيد أن الانفتاح على العالم ومعطيات العولمة الراهنة، سواء كانت تقنية، أو فكرية، أو ثقافة، من دون ثقة حقيقية بالذات، ومن غير مقومات حضارية صلبة، سيقود حتماً إلى حالة من الاستلاب الحضاري. فالانكفاء على الذات ورفض معطيات التقدم الحضاري بشكل مطلق، أو الاندفاع نحو تقليد الوافد من دون وعي، لن يحقق التواصل الخلَّاق الذي يثري مجتمعاتنا ويغنيها، ويرتقي بها إلى مصاف المجتمعات المتقدمة. ولن ينقلها أيضاً من حالة الجمود والتكلس والسكون العديم الحيوية، إلى حالة الحركة والتفكير والبحث والتنقيب والإبداع، وذلك بقصد بلوغ مدارك جديدة في سياق التطور الإنساني الذي تمر به البشرية في الزمن المعاصر.