الانفتاح الرَّشيد على ثقافات العالم
يمكن القول بأنه منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث انتشار الأطباق الفضائية، والانفتاح على العالم الخارجي، من خلال انتشار البث عبر القنوات الفضائية، ثم ما أعقب ذلك من تطورات متسارعة في تقنيات الاتصال الحديثة، وعالم الإنترنت، والوسائط المتعددة، والثورة الرقمية، ووسائل الاتصال والتواصل، أصبحت الكرة الأرضية كالقرية الصغيرة، وتقلصت معها المسافات وألغيت الحدود، وأصبحت مجتمعاتنا مكشوفة أمام العالم الخارجي ومتصلة به، وكل ذلك بفضل التقدم التقني، والتوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة.
لقد قضت الثورة الرقمية على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية، وفرضت على الجميع ثقافة الشيوع. فمع وجود المئات من الفضائيات، ناهيك عن انتشار الإنترنت والهاتف النقال ووسائل الإعلام الجديدة، أصبح من الصعب الانزواء والتقوقع على الذات، والانعزال عن الأحداث الكبرى التي تحرك عالم اليوم. كما أصبح بالإمكان اليوم، بفضل التقدم العلمي الذي تشهده البشرية، أن يضغط الإنسان على زر أي جهاز من هذه الأجهزة الحديثة حتى تنفتح أمامه الآفاق، ويخرج من محيطه المحدود والضيق إلى رحاب فضاء خارجي مفتوح وغير محدد بحدود.
وإذا كان الفرد فيما مضى يرجع إلى بطون الكتب والموسوعات والمراجع الموجودة على أرفف المكتبات للحصول على المعلومة التي يبحث عنها، أو القراءة في الموضوع الذي يهمه، فإنه اليوم قادر على استخراج ما يريد من معلومات وموضوعات في دقائق معدودة، واختصار وقت البحث والإنجاز في مدة قصيرة، من خلال كبسة زر على جهازه الذكي، أو حاسوبه الشخصي، وهو جالس في مكانه، عوضاً عن بدل الجهد، وصرف الوقت، بحثاً عنها في المكتبات، واستخراجها وقراءتها من بين بطون الكتب.
لقد بات بالإمكان مع هذا التطور العلمي والتقني الذي تشهده البشرية، والتوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والتواصل، الولوج إلى مختلف مناطق العالم الواسع، والتواصل مع ثقافاته المختلفة عبر الإنترنت، واكتشاف الكثير من الأفكار الجديدة، وفي كافة مجالات الحياة، حيث أصبحت مجتمعاتنا تعيش حياة تحكمها وتسيرها تكنلوجيا الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية.
إلا أن ما يفترض التَّنبُه إليه بشدة في سياق هذا التطور والانفتاح، حسب رأي سعود البلوي، «هو مواكبة الواقع لتطورات العالم، والعالم المفترض. فالانفتاح يحتم هذا الأمر ويجعله أساسياً، لأننا قد نجد أنفسنا في يوم وسط أزمة كبيرة لا نستطيع الخروج منها بالانفتاح المفاجئ، الذي ربما يكون غير مأمون الجانب. وهنا نحن أمام استراتيجية يجب أن تكون سريعة الخطوات، بواسطتها يتغير المجتمع، ويتقبل التغيير على أرض الواقع، لأن تأثير التطور التقني والتغيير في العالم الافتراضي له انعكاساته على الفرد والمجتمع اللذين يتأثران به حتماً مهما كان الهدوء والسكون، ولا سيما أن التواصل مع العالم الخارجي يعني الوعي بالذات وبالمجتمع وبالعالم أجمع، وبالتالي حين تهب عاصفة ما فإنها تلقي بتأثيراتها على الجميع ولن تستثني مجتمعاً دون آخر». 1
وغني عن القول بأن الدعوة إلى مواكبة التقدم المادي والثقافي الحاصل في هذا العالم لا يعني القطيعة الكاملة مع الماضي في كل أشكاله، ومع قيم مجتمعاتنا، ديناً وثقافةً وتاريخاً، ورفض مسيرة التطور والتحضر بالمطلق، أو الارتماء في أحضان الغرب ومحاكاته وتقليده بالكامل، وإنما العمل بوعي على الفرز بين الغث والسمين من هذا وذاك، ومن ثم استيعاب ما هو صالح وقيِّم، وإدماجه ضمن المنظومة الاجتماعية والثقافية السائدة كي يصبح جزء من أسلوب حياتها الطبيعية.
ولئن كان التغيير والتغيُر من الأمور الطبيعية، وسنة من سنن الحياة، غير أن المهم في المسألة هو التعامل الواعي والحكيم مع التحولات والمستجدات التي تطرأ، وترشيد التفاعل معها. فكم هي المجتمعات التي دخلت الحداثة والتطور من دون أن تقطع مع ماضيها وتراثها وثقافتها الأصيلة، ومن دون أن تفقد شخصيتها، حيث يندرج في هذا السياق النموذج الياباني الذي حافظ على ثقافته، وفي الوقت نفسه حقق تطوراً علمياً وصناعياً هائلاً. وهو مثال في التقدم الحضاري يمكن للبلدان النامية أن تحتذيه، وتحقق نقلة نوعية في مجالات العلوم والتكنولوجيا من دون قطيعة مع قيمها الأصيلة.