حول ظاهرة العولمة الثقافية
تأثير الثورة الاتصالية وأثرها لا يقتصر على فئة أو قطاع محدد من الناس، بل يمتد أثرها وتأثيرها على الجميع، وهو الأمر الذي نراه بوضوح من خلال تملُك التقنيات الجديدة من قبل أكثر الناس، والاستخدام الواسعة لوسائل الاتصال الحديثة، والحرص على اغتناء أحدث منتجات تكنولوجيا الاتصال.
فتوسع شبكات الانترنت وانتشارها، ودخولها إلى كل مدينة وقرية، ضاعف أعداد المستخدمين من كل الفئات العمرية، وأدى إلى انغماسهم في حقل الثقافة الرقمية، والعوالم الافتراضية، حيث تحولت المنتجات التقنية الجديدة إلى ضرورة أسرية واجتماعية وعِلمية وعَملية، وشكلت نقلة نوعية في حياة الناس، وأصبحت تلعب دوراً فاعلاً في تسهيل الحياة اليومية للبشر، وفي اختصار وقت الإنجاز، وفتح باب التواصل الشبكي بين بني البشر، وخلق علاقات ثقافية مع جميع أمم المعمورة.
فإذا كانت الثقافة قبل هذه الاختراعات تقتصر على النخبة، أو على فئة قليلة من الناس، كونها قادرة على امتلاك وسائط المعرفة المعروفة، كالصحافة، والراديو، والتلفزيون، وقادرة على دخول دور السينما، وشراء الكتب وقراءتها، إلا إن الثقافة اليوم انتقلت من الحالة النخبوية إلى الحالة الجماهيرية، بفضل هذه الاختراعات المذهلة. فانتشار الإنترنت والوسائط المتعددة جعل المسألة الثقافية أمراً قابلاً للتداول بشكل سهل ويسير، وفي متناول الغالبية العظمى من الناس.
حاصل القول، إن هذه الاختراعات الكبرى خلقت ما يسمى اليوم بظاهرة العولمة الثقافية، والتي باتت في طليعة محركات الأحداث الكبرى في عالمنا المعاصر. ومن شأن هذه الظاهرة أن تخلق في جميع أنحاء المعمور أوضاعاً وعلاقات ثقافية غير متكافئة نتيجة سيطرة ونفوذ صُنّاع هذه العولمة، حيث يغلب على هذه الظاهرة طابع التبعية والهيمنة. فالكثير من مكونات هذه الظاهرة، ومنها الفضائيات، وكذلك عوالم الانترنت الافتراضية، قد اجتاحت معظم المجتمعات، وأخذت تلعب دوراً حاسماً في تكوين ذائقة التلقي وانماط السلوك.
ولئن كانت لظاهرة العولمة الثقافية «انعكاسات ثقافية واجتماعية مفيدة، كونها تسير في اتجاه التفتح والتوعية بالحقوق وبالمضامين الإنسانية الإيجابية للحداثة، وبأهمية التعرف على الثقافات المغايرة ومحاورتها. إلا أن لها في الوقت ذاته انعكاساتها السلبية. فقد استطاعت أن تجذب إليها قلوب السواد الأعظم من الأجيال الشابة في العالم العربي أكثر من غيرها. وكان وقع إغراءاتها ومؤثراته قوياً على تلك الفئات إلى حد أن قسماً مهماً منها هام بالتحليق خارج فضاء القيم والتقاليد، وانجذب نحو المثير والشاذ في الحياة الغربية المعاصرة، وتباهى بمحاكاة النموذج الثقافي الغربي المعولم، سواء تعلّق الأمر بأساليب السلوك والتفكير، أو بعادات الملبس والاستهلاك. فكان ذلك بمنزلة بوابة مفتوحة لاستشراء مظاهر التغريب الثقافي وسلوك اللامبالاة، ناهيك عن التعصب والتطرف المفضي أحياناً الى ظهور بوادر التشكيك في الهوية الثقافية الوطنية». 1
وإذا كان مثل هذا النمط من الثقافة الاستهلاكية يعد جزء من طبيعة الحياة في المجتمعات الغربية، كونها تتوفر على قدر من رفاهية المعيشة، إلا أن هذا النموذج الاستهلاكي أصبح من الشيوع بحيث أخذ يغزو حتى المجتمعات الأقل حظاً في النمو وفي الإمكانات المادية، والتي أمست تحت وطأة هذا النموذج «يتنازعها ميلان، أحدهما يشد باتجاه الوعي المحافظ الذي يهاب كل ما هو جديد وخارق للسائد من الاعتقادات والمفاهيم، والثاني يدفع باتجاه ثقافة سطحية، مظهرية، لا تؤصل أو تؤسس لوعي جديد، وانما تُزيِّن الجوهر المحافظ بقشرة خارجية هشة تبدو جديدة، ولكنها ليست بالضرورة كذلك، فهي ليست نتاج وعي معرفي، تصنعه ُسياقات تربوية ومعرفية، وإنما نتاج إبهار الصورة، التي يلعب التلفزيون دوراً محورياً في إنتاجها وتعميمها». 2
وحين يكون لظاهرة العولمة الثقافية هذا التأثير وهذه الانعكاسات، فإن المجتمعات المتضررة من سلبياتها، ليست مطالبة بتشخيص أزماتها الأصيلة وعللها المزمنة فقط، بل هي أيضاً مطالبة بتشخيص ما استجد من علل وأزمات، من خلال فكفكة الظروف الخارجية والداخلية التي أعاقت وتعيق تقدمها الحضاري، والعمل على تحليلها بأمانة، لفهم الأسباب الرئيسة الكامنة خلف حالة الاستلاب والتبعية التي تعيشها، وأسباب الإخفاق الثقافي والفكري الذي تمر به، ومن ثم وضع الخطط، وإيجاد الحلول والبدائل، التي تحمي بها شعوبها من الاخطار الكثيرة المحدقة بها جرّاء هذه الثور الاتصالية والإعلامية والمعلوماتية، والتي أسميناها في مقالة سابقة بثورة الإنفوميديا، وما ينتج عنها من مشكلات وقضايا سلبية، أو أي افرازات شاذة مستقبلية.