إقامة الكتاب وصلاح الكون
يجادل البعض بأن التدين أمر شخصي لا تأثير له على مستوى النظام العام إلا بمقدار محدود جدا، لأنه شأن بين العبد وربه، لا تتجاوز دائرته هذا الإطار.
ولكن قليلا من التأمل في آيات الكتاب العزيز تكشف أن الأمر ليس كذلك، وأن إقامة الدين من خلال إقامة الكتاب أمر له آثاره العظيمة على مستوى الحياة الاقتصادية والمعيشية، وعلى مستوى صلاح النظام الإنساني بشكل عام. ومن ذلك قوله تعالى في شأن أهل الكتاب: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ». فهذه الآية تتحدث عن آثار دنيوية كانت ستعود على أهل الكتاب نتيجة إقامتهم الكتب التي أنزلت إليهم، حيث كانت ستغمرهم النعم من كل مكان من السماء والأرض.
والمراد من إقامة الكتب هو جعلها قائمة على ساق، غير ملقاة على الأرض مهملة ضائعة. ويكون ذلك من خلال تطبيقها تطبيقا أمينا بأخذها بقوة، وعدم تحريف كلِمها عن مواضعه. «فالإقامة إفعال: يلاحظ فيه جهة القيام بالفاعل، كإقامة الصلاة، وإقامة الجدار، وإقامة التوراة، وإقامة الحدود، وإقامة الشهادة».
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى في آية أخرى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». ففي الإيمان والتقوى يتجلى التطبيق الصحيح المطلوب، أما من دون ذلك فإن الانتساب للكتاب سيبقى مجرد ادعاء فارغ لا يوصل إلى النتيجة المبتغاة، بل يؤدي إلى عكسها تماما. يقول تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً. أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً».
ومن هنا جاء الأمر بإقامة الدين كله كما في قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» وذلك لما فيه من صلاح الناس وصلاح الكون من حولهم، ولما في الابتعاد عن تلك الإقامة من فسادهم وفساد البر والبحر بشكل ظاهر لا يخفى، كما قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».