التهميش الثقافي في عصر العولمة
لعل الحقيقة المُرَّة التي يجب أن تقال هي أننا اليوم وفي ظل التطور التقني الغير مسبوق، والذي تشهده البشرية في الزمن المعاصر، نعيش على هامش العالم. فالتقدم الصناعي والتقني والتكنولوجي وحالة العولمة، أو التواصل الكوني عبر شبكات الإنترنت العملاقة، أو الفضائيات، جعلتنا خاضعين للغير أو متأثرين بتوجهاتهم الثقافية والفكرية أكثر مما نحن مؤثرين في ثقافة هذا العالم وتوجهاته. فالآخرون يحتكرون وسائط التأثير، وهم المنتج الرئيسي للثقافة. فالفضائيات، على سبيل المثال، وسيلة اتصال فعالة تستعملها القوى المهيمنة من أجل الترويج لنموذجها اعتماداً على أساليب الاختراق الثقافي.
ومن غير الخفي أن "وسائل الإعلام ذائعة الانتشار، كالصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والشبكات التلفزيونية والإنترنت، تتمركز أكثر فأكثر في يد شركات عملاقة أصبحت تملك بفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة إمكانات وقدرات هائلة. فالثورة الرقمية قضت على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية، الكتابة، الصوت، الصورة، وفتحت المجال أمام الإنترنت، والوسائط المتعددة، والثورة الرقمية التي جسدت مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع.
وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة، أو المجموعات الإعلامية، تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع، ومستعمِلة لبث ونشر ذلك قنوات متعددة ومتنوعة من صحف ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية وكوابل وبث فضائي وشبكات البث الرقمي عبر الألياف البصرية والإنترنت. كما تتميز هذه المجموعات ببعدها الكوني العالمي. حيث إنها تتخطى الحدود والدول والجنسيات والثقافات، فهي كونية وعالمية الطابع. وبذلك أصبحت هذه الشركات العملاقة ومن خلال آليات الهيمنة والتمركز تسيطر على مختلف القطاعات الإعلامية في العديد من الدول والقارات لتصبح بذلك الرافد الفكري والأيديولوجي للعولمة الليبرالية". «1»
وإذا كانت العولمة بصفة عامة، والعولمة الثقافية بصفة خاصة، تبدو في أعين بعض المفكرين والمثقفين بأنها تفتح أمام الكثير من المجتمعات آفاقاً رحبة للاستفادة منها ومن امكاناتها غير المسبوقة، إلا أن الأمر غير ذلك في أعين آخرين من الذين درسوا الظاهرة العولمية، ورصدوا انعكاساتها السلبية على الأقطار العربية والإسلامية وعلى كثير من دول العالم حسب قول عبد الرزاق الدواي. «فهؤلاء لا يترددون في وصف العولمة الثقافية باعتبارها الثقافة الغربية الظافرة، بمختلف مكوناتها وروافدها، وخاصة الرافد الأميركي منها؛ وهي تسعى إلى فرض اختياراتها ومرجعياتها القيمية على سائر الثقافات الإنسانية الأخرى، بل وتساهم في تفكيكها وإعادة تشكيلها على نحو هجين، وكأنها مظاهر صارخة لهيمنة قوى عظمى تتحكم اليوم في مصادر الثروات، وفي مراكز تأويل القانون والحق والقيم؛ وكأنها استعمار جديد، لطيف وناعم، وهو يستهدف العقول والضمائر بالإيحاء والإغراء؛ استعمار لم يعد يفرض على الشعوب الأخرى من خلال عولمة ثقافته، وضرورة محاكاته في نموذجه فحسب، بل أضحى يعطي لنفسه الحق في تحديد كيفية هذه المحاكاة أيضاً». «2»
لقد أمست القوى المهيمنة تسعى إلى ترويج ثقافتها وتعميمها، وتذويب سائر الثقافات الأخرى لمصلحة ثقافتها، وتهميش، إن لم يكن إلغاء، الثقافات الإنسانية الأخرى وخصوصياتها، مستفيدة من التطور الكبير في وسائل الاتصال، والثورة المعلوماتية والتقنية، ووسائل الإعلام والبث المختلفة. إلا أن نجاح هذا المسعى من عدمه يعتمد على إرادة الممانعة لدى الشعوب التي تتعرض للتهميش، وقدرتها على إنتاج خطاب ثقافي مضاد يرفض الإقصاء والتهميش، وإنتاج نموذجها الخاص، فضلاً عن استغلال هذا التطور الكبير في وسائل الاتصال لتأكيد حضورها على الصعيد الكوني بقوة إلى جانب بقية الخصوصيات والنماذج والهويات الثقافية الأخرى الموجودة على وجه هذه البسيطة.
واللافت في هذا السياق أن بلدان تمتلك إمكانيات اتصالية متطورة، وصناعة ثقافية متقدمة، مثل فرنسا، تخشى التهميش الثقافي، والترويج لنماذج ثقافية مغايرة لا تنتمي لسياقها الحضاري والثقافي. غير أن السؤال ماذا يفعل الآخرون في بلدان العالم الثالث الذين يعتمدون على الآخر الغربي في عمليات البث البرامجي والإنتاج الثقافي؟
لذلك، وفي ظل هذه الهيمنة الثقافية، فإن على الشعوب التي تتعرض للتهميش ألا تسمح لنفسها إطلاقاً بالانزواء والانعزال، والسير في الاتجاه المعاكس، والخضوع لهيمنة الآخر الثقافية، بل على العكس من ذلك عليها أن تعمل على تشكيل نموذجها الثقافي الذي يعكس هويتها. فالأوضاع الراهنة في العالم المعاصر يدعوها للعمل بجد واجتهاد ليكون لها دور فاعل ومؤثر في عالم اليوم، خصوصاً في حال ما كانت تمتلك مقومات النهوض، وألا تكون مجرد مستقبلة ومستهلكة، أو متفرجة على مسرح الأحداث يتابعون الأحداث والقرارات.
غير أن تشكيل هذا النموذج الثقافي الخاص لن يتحقق إلا من خلال إصلاح ثقافي حقيقي، وتبنّي ثقافة تغيير تقوم بصياغة وعي جديد، يرتقي بواقع الإنسان، ويعزز ثقته في نفسه وقدراته وإمكاناته.
والسؤال من أين يبدأ هذا الإصلاح الثقافي؟ وكيف يكون؟ ومتى يبدأ؟