الإنذار المبكر
قد يظن البعض أن أسلوب الإنذار بما يعنيه من توجيه عناية المتلقي إلى أمر مخوف هو أسلوب تجاوزه الزمن، وأن لغته لم تعد الطريقة المناسبة مع الأجيال الناشئة، بل وغير الناشئة. وما ذاك، كما يرى، إلا لأن الأساليب التربوية الحديثة تتوسل في القيام بمهامها بالجانب التبشيري التحفيزي. غير أن أدنى مراجعة للنصوص القرآنية تلفت أنظارنا إلى أن هذا الظن في غير محله.
فمن المعلوم أن جميع الأنبياء بعثوا بالبشارة والنذارة، كما قال تعالى: «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» وقال: «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»، إلا أن التركيز على مهمة الإنذار أكبر، بل إن بعض الآيات حصرت مهمة النبي في الإنذار، كقوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقوله: «إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ» وقوله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ».
فالآيات التي تتحدث عن مهمة الإنذار لوحدها دون البشارة كثيرة دون العكس، من ذلك قوله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» وقوله: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» وقوله: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ» وقوله: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» وقوله: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» وقوله: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» والآيات كثيرة في هذا الصدد، بل إن الله تعالى ذكر أن أي أمة من الأمم لم تخلُ من نذير فيها: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ».
إن تلك الآيات وغيرها تنبه إلى أهمية الإنذار في أي مجتمع من المجتمعات لتقويم سلوك الفرد والمجتمع على السواء، إذ إن غالبية الناس لا يتفاعلون عادة مع نداء التبشير والمحفزات لو كان وحده تفاعلا إيجابيا يدفعهم إلى ضبط سلوكهم وفق محددات الشريعة، فالإنسان يميل بطبعه للتخلص مما يراه قيدا عليه كلما وجد لذلك سبيلا، كما ينزع إلى التعلق بالعاجل مما يجعل البشارة الآجلة أمرا لا يعيشه الفرد العادي من الناس.
قد تحاول إقناع أحدهم بضرورة توفير المال وزيادة المدخرات لمواجهة المستقبل، وقد يقتنع بما تقول، ولكنه في الغالب لن يقدم على خطوة في هذا المجال ما لم يستشعر الخطر وأنه قريب من ساحته. لذا كان الإنذار الصريح أمرا في غاية الأهمية لإشعار الآخرين بالخطر القادم الذي لا مفر منه كي يعودوا إلى رشدهم، ويعيدوا التفكير في مستقبلهم قبل فوات الأوان. يقول تعالى: «وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ويقول أيضا: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ».
من هنا جاءت مهمة المتفقهين في الدين هي الإنذار وقرع ناقوس الخطر في مجتمعاتهم وتنبيه الغافلين من نومتهم، كما قال تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».
الإنذار باختصار هو مهمة المصلحين أينما كان موقعهم، لا يستغنون عنه لإيصال رسائلهم «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».