للبشارة دورها أيضا
لما كانت مقالتي السابقة عن الإنذار وأهميته وتركيز القرآن البالغ عليه، كان لا بد من توضيح أمر قد يلتبس على البعض، فيظنون أن الخطاب القرآني لا يستعين بالبشارة أيضا لإيصال الناس إلى سعادتهم في الدارين. فهو يغفل الجانب التحفيزي الباعث على الحركة نحو المطلوب. بينما الأمر غير ذلك تماما، إذ القرآن يركز على الأمرين معا، ولكن تركيزه على الإنذار أكبر لأن الغالب في النفوس أنها لا تحفل كثيرا بالبشارات الآجلة، لانشغالها بالحاضر العاجل، بينما تكون الإنذارات الآجلة موضوعة بعين الاعتبار بصورة أقوى.
فالرسل جميعا جاؤوا يحملون معهم البشارة والإنذار معا، كما قال تعالى: «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ». وكذلك كان خاتمهم : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً».
وقد جاءت البشارة في القرآن الكريم لعدة طوائف بأساليب غاية في الجمال والحافزية نذكر سبعا منها:
1 - البشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بمختلف البشارات العظيمة، مثل: «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً» «وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً» «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
ولا شك أن التنكير في قوله «أَجْراً كَبِيراً» و«أَجْراً حَسَناً» للدلالة على عظم شأن ذلك الأجر المذخور.
2 - بشارة المتقين بالجنات وبما عند الله من نعيمه الذي لا ينفد: «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ». وفي قوله تعالى: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» يذهب بنا إلى قوله تعالى في حق المتقين: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ».
3 - بشارة الصادقين: «قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
4 - بشارة المحسنين: «وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ». وما ألطف قوله: «وَزِيادَةٌ» في البعث على الحركة ومزيد النشاط والفاعلية لنيل تلك الزيادة المجهولة والوصول لمعرفتها.
5 -، بشارة المنيبين لله: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ».
6 - بشارة الصابرين: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
7 - بشارة المبايعين لله الصادقين: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ».
هذه البشارات مرتبطة جميعها بالأفعال الصادقة، فالبشرى لا تعطى مجانا لأي واحد، وإنما لمستحقها بالفعل.