الإنذار لمن؟
سؤال قد يطرحه البعض عن الإنذار النبوي: هل هو للعالمين جميعا كما قال تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» أم هو للمعادين المعاندين كما في قوله: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» أم هو لمن يخشى الله ويتقيه كما في قوله: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ»؟
والجواب على ذلك أن الإنذار أولا يكون لجميع الناس، تماما كما هي البشارة، ثم يفترق الناس فريقين، فمنهم من يستمع الإنذار ويعيد توجيه حياته لتكون وفق مقتضى الإنذار، ومنهم من لا يصغي إليه، ويمضي في غيّه غير آبهٍ بالنذر والنذير.
وهذا ما أكدت عليه الآيات الشريفة في ذكرها للإنذار بمستوياته الثلاثة:
المستوى الأول للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم:
تأتي هنا مجموعة من الآيات، كقوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ». وقوله: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ». ومنه الإنذار الخاص بالقوم أو العشيرة كما في قوله: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» وقوله «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» وقوله «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ».
المستوى الثاني للذين اختاروا سبيل الغي:
كقوله تعالى: «وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» وقوله: «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً».
المستوى الثالث للذين اختاروا سبيل الرشد:
كقوله: «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ» وقوله: «وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» وقوله: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها».
هذا الفريق الثالث هو الذي ينتفع من الإنذار، فتسري فيه الحياة الحقيقية التي قال عنها ربه الكريم: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها». أما الفريق الثاني فهم في الضلالة سادرون لا يستفيدون من الإنذار، كما قال تعالى: «وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» لأنهم أغلقوا كافة منافذ المعرفة، واختاروا ظلمات الجهل، فماتوا وهم لا يزالون على قيد الحياة: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» أو كما قال تعالى في شأنهم: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ».
إن هذا الفريق لا حجة له يوم القيامة، بل إنه يلقي باللائمة على نفسه حيث لا تنفعها الملامة والعتاب: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ».