بناء الإنسان أولاً
إذا كان السبيل للخروج من المأزق الحضاري الراهن الذي تعيشه الأمة، لن يتحقق إلا من خلال إصلاح ثقافي حقيقي، وتبنّي ثقافة تغيير تقوم بصياغة وعي جديد يعزز ثقة أبناء الأمة بأنفسهم وبقدراتهم، فالسؤال من أين يبدأ هذا الإصلاح الثقافي؟ وكيف يكون؟ ومتى يبدأ؟ هل استطعنا اليوم استكمال تشخيص حالة التخلف، وتحديد مكمن المشكلة؟ أم أن الأمر ما زال في طور التبلور؟ هل السؤال المطروح علينا في هذه اللحظة هو: كيف نبدأ عملية الإصلاح والتغيير؟ أم هو متى نبدأ عملية الإصلاح والتغيير؟
على أية حال، هذه التساؤلات، وغيرها أيضاً، سوف تكون جزء من موضوعات هذه المقاربة، والتي كما أشرنا في مقالة سابقة بأنها سوف تمتد إلى عدد من الحلقات، حيث نحاول البحث فيها عن مشكلة الثقافة، مع التأكيد بأن هذه المقاربة لا تدَّعي إحاطتها بكل مشكلات الثقافة في مجتمعاتنا، وإنما تهدف لأن تكون عملاً تنويرياً نظرياً، من خلال تسليط الضوء على أبرز الاشكاليات والقضايا والموضوعات التي تشكل جزء من المأزق الحضاري الذي نعيشه في هذه اللحظة التاريخية، وسبل مواجهته، وطريقة الخروج من حالة التخلف.
وإلى ذلك تسعى هذه المقاربة في الآن نفسه لتكون الموضوعات والأفكار الواردة فيها مساهمة جادة في تفعيل الحراك الثقافي الجدي وسط مجتمعاتنا، التي تُتّهم بأنها خاملة وبليدة، وذلك حول واقعها اليوم، ومستقبلها، ومستقبل الأجيال الطالعة فيها. فمجتمعاتنا اليوم مع شديد الأسف منشغلة أما باللذات الحسية الآنية، أو بالتلذذ بالماضي وأساطيره، والعمل على خلق حالة حوارية فكرية نشطة، تثير الأسئلة، وتذهب لمناقشة الأفكار الكبرى التي تغذي الثقافة العقلانية، والتفكير في خلق رؤى مستقبلية، ومشاريع مركزية ذات طموحات عالية، تستثمر في الإنسان وترتقي به، وتبني المجتمع وتُنمّيه، وتُعزز مكانته وموقعة بين المجتمعات والأمم، بدلاً من استهلاك جُلَّ أوقاتنا وأحاديثنا وتفكيرنا في مناقشة كل ما هو فرعي وثانوي وهامشي وسطحي، أو في الصراخ العالي من دون جدوى، ومن دون أي مردود إيجابي يذكر.
فدائماً ما يعاب علينا بأننا ظاهرة صوتية، نُكثر من الكلام والصراخ بدون تفكير، أو بعيداً عن الفعل والانجاز، نتيجة عجزنا وكسلنا، وعدم بدل الجهد في تحويل ما نقوله إلى أفعال، فننشغل بالكلام في الهامشيات والفرعيات ونرفعها كعناوين وشعارات عريضة، إلا أننا لا نقترب من الحديث عن الآليات والادوات التنفيذية لذلك. فمن دون الانتقال إلى البرامج العملية، والخطوات التنفيذية، وبحث الخطوات العملية التي توصلنا إلى الهدف المقصود، فإن المسألة ستظل مجرد كلام وصراخ في الهواء من دون أن يتحقق شيء على أرض الواقع.
إن ثقافة الاعتماد على الغير، أو الاتكال على تجارب الآخرين أو استنساخها من دون وعي، هي من معوقات ومثالب النهضة المنشودة، فكلما اعتمدنا على ما يصنعه وينتجه الآخرون من الصغيرة إلى الكبيرة طالت كبوتنا وزاد تخلفنا وامتدت غيبتنا. لذلك ينبغي تجاوز حالة الصراخ وإطلاق الشعارات والكلام الذي لا يغير من الواقع شيئاً، فالنهضة لن تتحقق بالأمنيات والشعارات الرنانة، بل بالهمّة العالية والمثابرة والخطط الجادة، والعمل الحثيث والجاد على كسب مقومات النهوض، والعمل بجد من أجل الارتقاء بقيمة العقل، والإعلاء من قيمة العلم، والمثابرة على العمل وحسن الأداء، والمزاوجة بين ذلك والمقومات المادية التي نمتلكها، حتى يمكن لأمتنا الانتقال من حالة الركود والسكون والاعتماد على الغير إلى حالة الحركة والعمل والاعتماد على الذات، والانطلاق نحو المستقبل بكل همة وثقة بالذات.
ولن يتحقق هذا التقدم المنشود إلا حين يبدأ بالإنسان أولاً، تربيةً وتعليماً وتثقيفاً ووعياً، والاستثمار فيه من خلال تنمية قدراته، وتطوير كفاءاته، من دون إغفال أهمية اكتشاف الموارد الحقيقية للمجتمع، سواء البشرية أو الطبيعية، وتسخيرها فيما يعود على الأوطان بالنفع في ضوء استراتيجية متكاملة، ورؤية علمية مستقبلية، لأن النهضة لا تعني زيادة الآلات ووفرة الإنتاج فقط، بل تعني أن ينهض الإنسان قبل أي شيء آخر، كونه أساس النهوض، ووقود التنمية، وغايتها في الوقت نفسه، والركيزة الأساسية لأي نهضة فاعلة نطمح إليها.
وعليه فالإنسان في مجتمعاتنا بمقدوره تجاوز حالة التخلف ومجاراة حالة التقدم التي تحدث في المجتمعات الأخرى، واللحاق بالثورة العلمية والتكنلوجية العالمية، وتقليص الفجوة التي تبعدنا وتفصلنا عنهم، خصوصاً في هذا الزمن الذي انفتحت فيه المجتمعات على بعضها البعض من خلال الاتصال بالإنترنت، ووسائل التواصل المختلفة، وفي ظل هذه الثورة التكنولوجية الغير مسبوقة، فأصبح تبادل المعلومات والخبرات والتجارب متاحاً بصورة تحث كل مبدع، وكل طالب علم، على العمل والجد والمثابرة والابتكار.
ولعل أخطر الثغرات التي تعاني منها الدول العربية، حسب وجهة نظر أحمد أبو الغيط، «تتعلق بضعف قدرة منظوماتها الابتكارية، وتراجع إسهامها في الاقتصاد الرقمي، الذي يُمثل عصب النشاط الاقتصادي في عالمنا اليوم. إن الظاهرة المُسماة بالثورة الصناعية الرابعة توشك أن تُغير معادلات توليد الثروة والنمو بشكل جذري، حيث صارت المعرفة والابتكار، لا التصنيع أو الخدمات، هما المولّد الأهم للقيمة المضافة العالية. وتقتضي مواكبة هذه الثورة الهائلة استثمارات ضخمة في رأس المال البشري ومجالات التنمية الإنسانية، وبالأخص في الصحة والتعليم والتدريب». 1
خلاصة القول إن تجاوز حالة التخلف والمضي قدماً على طريق النهضة المرجوة يحتاج إلى مراجعة الذات، وممارسة النقد الذاتي أولاً، فأولى خطوات العلاج لتحقيق النهضة تبدأ من تشخيص الأمراض التي تعاني منها أوطاننا، والتي تقف حجر عثرة في طريق تقدمها، ثم محاولة البحث عن طريقة للشفاء العاجل في إطار خصوصية وظروف كل مجتمع، كي ننتقل بحلم النهضة لتكوين مجتمعات عصرية قوية تمتلك أدوات التقدم والتطور.