لا يستوي الخبيث والطيب
الخبيث والطيب وصفان متقابلان تقابل الضدين، يدل الأول على الشيء الرديء والثاني على ضده وهو الجيد من بلد أو مال أو إنسان أو غير ذلك، كما قال تعالى: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً» وقال: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» وقال: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» وقال: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» وقال: «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ».
لكن المشكلة تكمن في الارتباك الموقفي الذي قد يحدث عند الإنسان في تشخيص الخبيث، خصوصا حين يحتل الخبيث من أفكار أو أشخاص أو أفعال أو أموال أو غيرها مساحة كبيرة في الواقع، فيظن البعض أنها لا يمكن أن يصدُق عليها الخبث، وإلا لما انتشرت واتسعت رقعة نفوذها.
لذا يأتي الخطاب القرآني صريحا جليا في عدم المماثلة والاستواء بين الخبيث والطيب، حتى مع فرض كثرة الخبيث التي تؤثر في النفوس فتحجب عنها الرؤية الحقة، لأن الخبيث يجب أن يظل خبيثا، وأن لا تضيف له الكثرة أية قيمة تخرجه من حالة التردي والخساسة إلى حالة الرفعة والجودة. يقول تعالى: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
إن فهم هذا الأمر فهما عميقا مستوعبا يحتاج كما تذكر الآية إلى الالتزام بتقوى الله وخوف مقامه الأعلى، وكذلك للاتصاف بالكون من أهل العقول الصافية غير الملوثة بالأفكار الفاسدة.
وهنا لنا أكثر من وقفة:
الوقفة الأولى: مع عدم الاستواء كمفهوم قرآني
فقد أكد القرآن على عدم التسوية والمماثلة بين كثير من الأمور التي تبدو بديهية، ولكنها لا تكون كذلك في مجال التطبيق، بسبب استغراق الإنسان في مسيرته الحياتية سائرا مع التيار الجارف دون توقف وتأمل وتساؤل. من ذلك قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ» وقوله: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» وقوله: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ».
وفي هذه الآيات وأمثالها تنبيه للإنسان للخروج من غفلته والاستماع لصوت العقل والضمير فيه.
الوقفة الثانية: تنوع الأسلوب القرآني في طرح هذا المفهوم:
إذ يلاحظ القارئ للكتاب العزيز أنه يطرح هذا المفهوم بأساليب متنوعة بين السؤال التقريري والتقرير المياشر، كقوله: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ» وقوله: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ».
وهذا يحتاج لدراسة أسلوبية تبحث في أسباب اختيار أسلوب دون آخر، واختيار النفي ب «ما» أو ب «لا» كقوله: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ»، وأسباب تكرار «لا» وعدم تكرارها، وأسباب تقديم أجد الضدين على الآخر.
الوقفة الثالثة: ضرورة ترسيخ هذا المفهوم اجتماعيا:
وذلك لأن المساواة بين غير المتساوين ظلم، كما قال تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». فالمساواة بين العالم والجاهل والعامل وغير العامل أدى ويؤدي دائما للمزيد من التخلف.