مفهوم الثقافة وتحولات الحياة
الدعوة إلى تحديث البنية الثقافة لأي مجتمع، وتطوير قاعدته الفكرية، يستدعي الحديث عن مفهوم الثقافة وجوهر معناها، إذ يمكن تلخيصه بالقول: إن الثقافة هي سلوك مكتسب، يكتسبه الإنسان من المحيط البشري الذي يحيا فيه، ويتعلمه منه، ويتربى على الإيمان به وبأهميته وقدسيته. فالثقافة في محتواها ومضمونها تتكون من العادات التي يكتسبها الفرد من خلال خبرة حياته وصلاته وعلاقاته بالآخرين من حوله، حيث يكتسب عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية طرق السلوك والتفكير والاعتقاد والشعور، والتي يفصح عنها كل من هم إلى جانبه، أو كل من هم حوله.
إن ثقافة الأفراد وعقولهم وسلوكهم في أي مجتمع هي انعكاس لمنظومة القيم الثقافية الراسخة والرائجة في المجتمع، فهم نتاج طبيعي لهذه القيم التي إنبنت وتكونت خلال عقود من الزمن يرثها الأبناء أباً عن جد، ويتربون عليها، لتكون نسقاً ثقافياً يتميز به، ويختلف فيه، عن أي مجتمع آخر له قيمه وثقافته التي تميزه عن غيره.
كما أن لمفهوم الثقافة بعداً بنيوياً يرتبط بالقاعدة الفكرية والثقافية التي يتأسس عليها البناء الفوقي لأي مجتمع، فإذا كانت القاعدة والبنية الثقافية التحتية في أي مجتمع صلبة ومتينة، كان البناء العلوي فيه قوياً وباهراً. أما إذا كانت تلك القاعدة الفكرية ضعيفة ومهترئة، فإن البناء الفوقي بالتأكيد سوف يكون متهالكاً لا يلبث أن يتهاوى ويسقط مع أي هبة ريح.
إلا أن طبيعة تفاعل الفرد وسلوكه مع محيطه ونمط حركته في هذه الحياة رهين بما يحمله من محتوى ثقافي متمثل في الأفكار والتصورات والاعتقادات ومنظومة المنطلقات الاعتقادية، والتي تؤثر لا إرادياً في طبيعة نظرته إلى نفسه والكون والحياة، وتحدد أو توجه سلوكه في هذه الحياة. لذلك فإن سلوك الفرد وتصرفاته ونمط تفكيره وتعامله مع محيطه هو انعكاس لتلك المكونات الثقافية والفكرية التي ساهمت في صياغة قاعدته المعرفية.
وعليه فإن أثر المنظومة الثقافية في الأفراد هي حقيقة اجتماعية وثقافية وإنسانية مؤكدة لا يمكن التشيك فيها. وإحداث التغيير في أي مجتمع لا يتأسس إلا على قاعدة تحديث بنيته الثقافية وقاعدته الفكرية، بالإضافة إلى دعم وترسيخ القيم الثقافية الدافعة والمحفزة على التقدم والنهوض، وتفكيك البنية الحاضنة للتخلف، والوقوف في وجه القيم السلبية المكبلة والمثبطة، والتصدي لها والتخلص منها.
لذلك فإن تعزيز قيم الثقافة الحية والخلَّاقة والفاعلة يعتبر الركيزة والقاعدة الأساسية لانطلاق أي عمل نهضوي وتغييري يتطلع إلى غد أفضل، وبناء مستقبل واعد. وعندما يكون أفراد المجتمع يملكون من الوعي والدراية والنضج المعرفي فإن ذلك يجعلهم قادرين على التمييز والاختيار، أو الرفض والقبول، الواعي للعناصر الثقافية الحية، والتي يمكن تكييفها تبعاً لظروف ومستجدات العصر وحاجاته، والوقوف من الموروث الثقافي موقف الواعي الإيجابي به، والمتلقي المتبصر فيه، لا موقف المستسلم السلبي، أو المتلقي العاجز.
وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم، نتيجة الثورة العلمية والمعلوماتية، والتقدم التكنلوجي المذهل، يصعب تجاهل الآثار التي تركتها هذه الثورة على حياة الناس وثقافتهم، وما صاحبها من انتشار لمظاهر كثيرة لم تكن معهودة من قبل، وأدت إلى حدوث تغيير في نظرة الناس للأشياء من حولهم. فما كان يعدّ في زمن سابق من الكماليّات التي لا لزوم لها ربما أصبح اليوم مع هذه التحولات أمراً ضرورياً لا غنى عنه.
لقد تركت مستجدات العصر الحديث ومظاهر الحياة المعاصرة تأثيراً ثقافياً كبيراً في وعي الناس. فطغيان منتجات الصناعات التكنولوجية المتطورة، بالإضافة إلى الانفتاح على الثقافات والعادات التي جاءت بها عولمة التواصل، تركت آثارها على الإنسان وسلوكه، وعلى توجهات الناس وأخلاقهم.
وعلى الرغم مما يمكن أن تحدثه مستجدات العصر من آثار على مستوى العادات والتقاليد والموروثات الثقافية والقيم والأخلاق، إلا أن ما يجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن طبيعة الأشياء والأمور في هذه الحياة لا تبقى على حالها، وأن الثقافة في أحد خصائصها أنها متغيرة ومتحولة وغير ثابتة، تتغير وتتحول مع الزمن.
فمن النادر أن يكبر الإنسان ويجد نفسه في الثقافة نفسها التي كانت سائدة في الوقت الذي ولد فيه، فالعادات والأعراف والتقاليد وآداب السلوك والفن واللغة والأفكار والمعلومات، وكل ما يمكن إدراجه تحت مسمى الثقافة من عناصر مادية وغير مادية يمكن أن يصيبها التغير والتحول بشكل أو بآخر، تغيُّر شكلي ظاهري، أو تغيُّر في المحتوى والمضمون، تغيرات سريعة ومتتابعة الخطى، أو تغيرات متقطعة بطيئة الخطى. وكل ذلك يختلف من مجتمع إلى آخر، المهم أن يكون أفراده قادرين بوعيهم على التمييز والاختيار بين الخبيث والطيب، أو الحسن والقبيح، بشكل نقدي وعقلاني.