الخائضون
الخوض هو «الدخول في الماء مشيا بالرّجلين دون سباحة ثم استعير للتصرّف الذي فيه كلفة أو عنت، كما استعير التعسّف وهو المشي في الرمل لذلك. واستعير الخوض أيضا للكلام الذي فيه تكلّف الكذب والباطل لأنّه يتكلّف له قائله، قال الراغب: وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يُذمّ الشروع فيه».
من خلال تتبع الآيات التي تحدثت عن الخوض، يمكننا أن نلحظ التالي:
1 - وجود ارتباط وطيد بين الخوض واللعب في عدة موارد؛ في قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» وقوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» وقوله: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» وقوله: «الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ». واللعب هو الممارسة التي لا فائدة ترجى منها.
2 - الخوض يكون عادة ممارسة جماعية في جو من الاستهزاء والاستخفاف والاسترسال وعدم الرغبة في الاستماع أو الحوار مع الآخر، كما في قوله: «وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا» وقوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» وقوله: «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ» وقوله: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ».
3 - عاقبة الخوض وبيلة في الدنيا والآخرة ينبغي على كل عاقل وقاية نفسه من الوقوع في مهاويها. وقد بينت الآيات تلك العاقبة في قوله تعالى: «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» وقوله: «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ. فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ».
3 - ترشد الآيات إلى ضرورة اتخاذ موقف من المؤمنين تجاه الخائضين بالامتناع عن مجالستهم حال ممارستهم للخوض والاستهزاء بالله وآياته، حتى لا يشكل ذلك إقرارا لهم على فعلهم القبيح، ونأياً بنفس المؤمن عن تلك الأجواء الملوثة التي تفسد النفس، وترديها في المهالك. يقول تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ويقول: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً».
4 - يقول صاحب تفسير الأمثل: لا ضير من مجالسة الكفار إن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطرا آخر، ويدل على إباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها اللّه قوله تعالى في الآية: حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.