هل تحب الخلود؟
كل واحد منا يحب ذاته، تلك واحدة من أقوى الغرائز في نفوسنا. ولأننا كذلك، فإننا نحب لذواتنا الخلود. فلو عُمّر أحدنا عُمْر نبي الله نوح لاستقل ذلك ولطلب المزيد. ومع أننا على يقين من أن أعمارنا محدودة جدا، إلا أننا نظل في تَوقٍ دائم للخلود، وحنين مستمر لحياة لا يكدرها خوف الفناء.
ولذا قد يتعلق الإنسان بما يرى فيه سبيلا للخلود، وإن كان موهوما، كما قال تعالى: «الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» وقال في صاحب الجنّتين: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً». ومثلُ هذا الوهم يوقع الإنسان في دوّامة من الانشغال الشديد بما يبعده عن طريق الخلود الحقيقي الذي ينبغي أن يسعى إليه: «وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».
لقد كان حبّ الخلود أحد أمرين اختارهما الشيطان ليغوي بهما أبانا آدم ، كما في قوله تعالى: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى»، وهذا يدل على قوة رسوخ هذه الغريزة، وعلى إمكان استغلالها بالاتجاه الخاطئ، أو استثمارها بالاتجاه الصحيح. المسألة تتعلق بمعرفة الإنسان بالباقي والفاني وتشخيص مصاديقهما بدقة، «فلو عرف الإنسان أن له حقيقة غير مادية ولا تنحصر حياته في الحياة الدنيا فإن حب البقاء والخلود سيجد اتجاهه الطبيعي والفطري، وسيتعلق حب الإنسان بحياته الأبدية، وفي المقابل لو اعتقد أن وجوده هو هذا الوجود المادي، وتنحصر حياته في هذه الدنيا ولا توجد حقيقة أخرى وراء هذا الوجود والحياة المادية فستنحرف هذه الغريزة الفطرية وحب البقاء في الإنسان عن نهجها الطبيعي والمسيرة الفطرية الأصيلة، وستتوقف في هذه المرحلة القصيرة من الوجود المادي والحياة الدنيوية للإنسان، وسيكون هذا الانحراف والجمود منشأ للكثير من الآثار والأعراض والأعمال والسلوك والعلاقات الخاطئة والقبيحة».
وقد ركز القرآن في الكثير من آياته على توجيه الإنسان نحو المعرفة بما هو خالد حقا حتى تكون بوصلة مسيرته متجهة إليه دائما، كي يضمن الوصول للخلود المبتغى، وليكون في جملة المخاطبين بقوله: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ».
إن توجّه الإنسان نحو حياة الخلود الحقّة له أثره الكبير في انضباط سلوكه، وفي قدرته على مواجهة المصاعب والشدائد، وفي استثمار عمره القصير خير استثمار بما يعود عليه وعلى البشرية جمعاء بالخير والصلاح والفلاح. ويمكن مراجعة الآيات من 90 إلى 97 من سورة النحل التي تبين هذا الأمر خير بيان.
وقد اخترنا منها قوله تعالى: «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ». ففي هذه الآيات تركيز على ما عند الله باعتباره الباقي، وكونه موجّها سلوكيا ضروريا للإنسان. ومن ذلك قوله تعالى: «الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً» والآيات كثيرة يجمعها قوله: «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى».