فلنثق في ربنا
الثقة بالله التي تعني حسن الظن به، والاعتماد عليه في جميع الأمور، والرضى بما يفعله بنا في كل الأحوال، وهو الحكيم الخبير الذي «لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً»؛ هذه الثقة هي رأس مالٍ كبير لا يقدره حق قدره إلا أهله الذين تعلقوا بالله تعالى تعلقا تاما، وانقطعوا إليه انقطاعا خالصا، وعلموا حقّا أنه وحده رب العالمين «الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ».
عندما بلغ ابراهيم تلك المرتبة العالية من الثقة بالله تعالى، أنزل أهله في وادٍ لا ماء فيه ولا ثمر، مطمئنا إلى ربه الذي لا تضيع ودائعه، داعيا إياه بكل إخلاص وثقة: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ».
وبثقةٍ عالية بالله تعالى تحدى نوح أعداءه المتربصين به وبدعوته، فخاطبهم قائلا: «ِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ».
يقول صاحب التفسير الوسيط في تفسيره لهذه الآية: يا قوم إن كان قد شقّ أو عظم عليكم قيامي بوعظكم من كلام ونحوه، وتذكيري إياكم بالوعظ والزجر بالأدلة والبراهين الدّالة على وحدانية الله وعبادته، فإني توكلت على الله وفوّضت أمري إليه ووثقت به، فلا أبالي بعدئذ بما أوذيت، ولا أكفّ عن دعوتي ورسالتي، فاعزموا على ما تريدون من أمر تفعلونه بي، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله من الأصنام والأوثان.
ولا تجعلوا أمركم الذي تعتزمونه خفيّا مشكلا بل أظهروه لي، وتبصروا فيه، ثم نفّذوا ذلك الأمر بالفعل، ولا تؤخّروني ساعة واحدة عن تنفيذ هذا الحكم المقضي، فإني لا أبالي بكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء، والله عاصمي وحاميَّ ومسلِّمي من أذاكم.
وهذا غاية الثقة بالله والاعتماد عليه، والاستهانة والاستخفاف بمن دونه، فعلى المؤمن أن يعتصم بالله ويثق بوعده، ويعتمد على ربّه، فإن العاقبة في النهاية له. انتهى.
وهكذا فعل هود مع قومه كما أخبر عنه القرآن الحكيم: «قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ».
وهكذا كانت ثقة موسى بالله حاضرة في أصعب المواقف: «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ»، وكذلك كانت حاضرة عند نبينا الأكرم محمد : «ِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا».
تلك كانت سيرة جميع الأنبياء، بل وسيرة عباد الله الصالحين الذين ساروا على نهجهم، فلم تفارقهم الثقة بالله حتى في أحلك الظروف: «وَ لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً».
في مقابل هؤلاء كان الذين يعوّلون على الآخرين من أمثالهم وعلى حساباتهم الضيقة البعيدة عن الله تعالى: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً». هؤلاء يستجيبون لإيحاءات الشيطان وما يلقيه في قلوبهم، فيرتكبون الحماقات ظنا منهم أنهم يحسنون صنعا. وقد حدثنا القرآن عن أصحاب الجنة الذين اهتزت ثقتهم بالله تعالى، فخططوا لوقف سيرة أبيهم الذي كان له بستان عامر بالخيرات، يأخذ منه حاجته، ثم يوزع الفاضل منه على الفقراء، فلما مات وورثه أولاده قرروا التوقف عن تلك السيرة: «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ».
لقد أضاعوا الثقة بربهم، فضاعت منهم جنتهم.
فلنثق في ربنا، ولنعلم أن «الثقة بالله ثمن لكل غالٍ، وسُلّم إلى كل عالٍ».