الناس شياطين ونحن ملائكة!
كلما برزَ الشرُّ وطفا، وكشّرَ عن أنيابهِ العفنةِ وكشفها، ونفثَ سمومَهُ السوداءَ الخبيثة، وقذفها في حياتِنا بتفاصيلها المتمايزةِ والمتنوعةِ والمتشعبةِ والمعقدة، كلما فعلَ ذلك وبالغَ في الفعلِ جابَهَهُ وتصدى لعفنهِ وسمومه - بكلِّ شجاعةٍ وعزيمةٍ وإصرارٍ وثقة - تلك القوةُ الخضراء التي لا تعرفُ الوهنَ أو الإذعانَ أو الانقياد، إنها قوةُ الخيرِ التي تظفرُ وتنتصرُ وتكون لها الغَلَبَةُ في نهايةِ المطاف، حتى وإن حدثت بعضُ العراقيلِ أو جرى تعطيلٌ وتبطِيء من قبل القوةِ السوداءِ الحاقدة قوة الشر. بعدها تُرْفَعُ رايةُ النصرِ وتُرَفْرِفُ بتلك الأيادي البيضاء أيادي قوةِ الخير، لكنَّ الشرَّ كالأخطبوط كلما قطعنا منه ذراعًا نبت له ألفُ ذراع.
مع تلك الحقيقةِ الواقعيةِ المرّةِ والطبيعية في الصراعِ بين الخيرِ والشر، فإنَّ الخيرَ لا يستسلمُ البتة، ويستمرُّ في مواجهةِ الشرِّ بأذرعهِ اللئيمةِ الممتدةِ والمنتشرةِ هنا وهناك، والتي يستخدمُهَا نوعٌ من البشرِ يحملون هيئةَ وشكلَ البشرية، لكنهم من الداخلِ هم شياطينُ الإنس، فتصرفاتهم وأفكارهم وأساليبهم ومكائدهم وأخلاقهم ربما تفوقُ إبليسَ نفسَه.
إن مشكلتَنا ليست مع هذا الواقعِ الصعبِ والمؤلمِ والمقيت في أنَّ الشرَّ موجود، شئنا أم أبينا، وشياطينه الذين يعملون كوكلاءَ حصريين له وينفذون سياساته وأوامره القذرة هُم يعيشون بيننا ويقتاتون من آلامنا ومشكلاتنا وأوجاعنا، فهذا هو طعامهم المفضل الذي يتغذون منه ويشبعون به بطونهم التي تعودت على أكل النار، إن مشكلتنا الجوهرية هي في معرفة وتحديد هؤلاء الشياطين - شياطين الإنس -؛ حتى يتم التعامل معهم بصورة تليق بهم وبشرهم، وحتى نحسم موضوع إدعاء كثير من الناس لصفة الملائكية وأن غيرهم شياطين.
كلنا يتمنى أن يعيش حياة الملائكية المتمثلة في الخير والخير فقط، وألا يكون هناك شياطين أبدا يختبئون هنا وهناك، ولكن هذا الحلم الوردي وغير الواقعي هيهات له أن يتحقق أو أن يكون، فنحن في عالم الدنيا بطريقيه الخير والشر، ولسنا في الجنة التي نُزِع فيها الغِل وأصبح أهلها إخوانا على سررٍ متقابلين.
في قضايانا وحواراتنا ونقاشاتنا نتكلم عن تلك الفئة المجهولة وغير المعروفة من الأشرار، مع إدعائنا للخيرية التي فينا، ولا أدري هل هم الأشرار أم نحن؟!
ننتقد ونحلل شخصيات الناس، ونبني على تحليلاتنا صورا لهم وآراء سرعان ما تتحول إلى حقائق مؤكدة نؤمن بها فهي لا تحتمل الخطأ إطلاقًا من وجهة نظرنا، ونصبح في آرائنا دوغمائيين لا نرضى حتى بالنقاش السلمي المؤدب الهادئ حول هذا الأمر، فقد أصبح محسوما وكأنه من معتقداتنا - وهذا من الأمراض التي انتشر ت في مجتمعنا في الآونة الأخيرة - ثم نحكم على الناسِ ونصنِّفهم إلى فئتين: أخيار وأشرار، في حالة مزاجية تفتقد للمصداقية والتبصر بالأمور ووضعها في ميزان العدل.
فهل هذا الحكم الذي أصدرناه عن الآخرين يمكن أن تكون هذه آليته؟! وهل نحن مخولون بتلك المسؤولية الكبيرة؟ وهل نحن الجهة المقبولة في المجتمع كي نقرر من هم الأخيار ومن هم الأشرار في دنيا الناس؟
أظن أن هذه الأسئلةَ ومثيلاتها ستواجه بـ «لا» كبيرة جدا يتم لصقها بشدةٍ على جبينِ كل من قبل بهذه المهمةِ وهو لا يحمل المؤهلاتِ والأدواتِ التي تُمكِّنه من الحكمِ الصحيح؛ حتى تكونَ علامةُ الرداءةِ هي الواجهةُ التي تمثلهُ.
العنوان الذي نعتقدُ بصحتهِ وهو أن «الناس شياطين ونحن ملائكة» قد يكونُ في موقعٍ آخر بنفسِ العنوانِ وبنفس درجةِ الصحةِ والموثوقية مع فارقِ الترتيبِ بين كلمتي: شياطين وملائكة.
سأعطيك مساحةً رمليةً في شاطئ جزيرة بورا بورا؛ كي تفكرَ وتُمعنَ التفكير وبعيدًا عن أيِّ مؤثراتٍ جغرافية، ثم تَحْفِرُ رأيك عليها.