لا تعلمون شيئًا
«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
لا شك أن نظرية المعرفة التي تبحث في مصادر وقيمة المعرفة ذات أهمية قصوى في تحديد المواقف العملية تجاه أي منتج معرفي. وهذه الآية الشريفة توقف عندها عدد من المفسرين في حديثها عن اكتساب الإنسان للمعارف والعلوم. فالذي يظهر من الآية أن الإنسان يخرج من بطن أمه صفحة بيضاء خالية من أي علم، وأن الله تعالى زوّده بأدوات المعرفة الحسية «السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ» والعقلية «الْأَفْئِدَةَ» ليتمكن من خلالها من تحصيل العلوم وإنتاجها. فالحسُّ بكل أعضائه هو المصدرُ الأول لاقتناص العلم، ومن هنا قيل: من فقد حسّا فقد علما. ثم يأتي العقل ليكون المصدر الثاني.
هنا طرح المفسرون المهتمون بالمعرفة ومسائلها سؤالا مفاده: كيف يمكن التوفيق بين كون الإنسان لا يعلم شيئا عند ولادته، وبين المعلومات الأولية الضرورية البديهية التي يولد الإنسان مزودا بها، والتي هي أساس كل معرفة، كاستحالة اجتماع النقيضين، وأن الكل أكبر من الجزء؟ فهل هي مستثناة من الآية؟ أم أن هناك تفسيرا آخر لها؟ وهل علم الإنسان بذاته وهو علم حضوري مفقود أيضا عند الولادة؟
ذهب صاحب تفسير الأمثل إلى أن ”العموم والكلية التي نطقت بها الآية «من أنّنا لا نعلم شيئا عند الولادة» ليس لها استثناء ولا تخصيص“. وأننا ”عند الولادة نكون في غفلة عن كل شيء حتى عن أنفسنا التي بين جنبينا، إلّا أن مسألة إدراك الحقائق تكمن فينا بصورة القوّة لا الفعل“.
بينما رأى صاحب الميزان أن الآية تخص العلم الحصولي دون الحضوري، فلا تشمل علم النفس بذاتها. واستشهد على ذلك بقوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» إذ لا شك أن هذا الذي هو في أرذل العمر عالم بنفسه في تلك الحال أيضا.
أما المعلومات الضرورية فقد فسّر السيد الصدر في كتابه «فلسفتنا» عدم وجودها مع الإنسان منذ البداية وحصوله عليها في مرحلة متأخرة عن ولادته بأن المقصود من كونها ضرورية في العقل البشري ”أن الذهن إذا تصور المعاني التي تربط بينها تلك المبادئ فهو يستنبط المبدأ الأول دون حاجة إلى سبب خارجي. ولنأخذ مبدأ عدم التناقض مثالا، إن هذا المبدأ - الذي يعني الحكم التصديقي بأن وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان - ليس موجودا عند الإنسان في لحظة وجوده الأولي، لأنه يتوقف على تصور الوجود، وتصور العدم، وتصور الاجتماع. وبدون تصور هذه الأمور لا يمكن التصديق بأن الوجود والعدم لا يجتمعان، فإن تصديق الإنسان بشيء لم يتصوره أمر غير معقول.“
أي إن هذه المبادئ فطرية كامنة في الإنسان تظهر عند توفر شرائطها التي هي تصوراتها اللازمة كما في مثال عدم اجتماع النقيضين. وهذا أمر في غاية الأهمية يجيب على سؤالنا الشائك الذي تم طرحه في البداية.
إن فهم هذه المسألة مهم جدا في تشييد نظرية المعرفة، وإن إنكار وجود المعارف البديهية لدى الإنسان ينسف مصداقية ما يصل إليه الإنسان من معرفة، إذ يبقى يبحث عن أساس معرفي لا يحتاج للتجريب والاستدلال حتى لا يقع في مسألة الدور أو التسلسل.