الهجرة والإنجاز
شدني حديث الأستاذ في مستهل حديثه عندما ذكر لنا الحديث القدسي: «إني جعلتُ العلمَ في الجوع والغربة والناس يطلبونه في الشبع والوطن فلا يجدوه» فكان يشجعنا للاجتهاد في طلب العلم ومعرفة فنونه وتفاصيله، ومفتاح اكتساب العلوم هو الصبر والإرادة والعزيمة ليتحقق المراد، والغربة والجوع من العوامل المساعدة في تحصيل العلوم وتحقيق الإنجازات بعيدا عن الساحة الاجتماعية، فهذه العوامل تفجّر الطاقات وتنمو المواهب وتحرّك الإنسان نحو تحقيق الهدف.
سألت أحد زملائي في سلك التعليم، لماذا لم تطلب نقلاً لخدماتك التعليمية وتكون في بلدك وقريبًا من منزلك؟ فجاوبني: إني مرتاح في مدرستي هنا رغم الغربة، وأكون مع أسرتي في عطلة الأسبوع، والسر في بقائي بعيدا عن بلدتي هو إرادتي في تحقيق الإنجازات التي لا أستطيع إنجازها وأنا بين أسرتي ومجتمعي. فهذه كانت وجهة نظره، وقد تحقق ما أراد له من تأليف مجموعة من الكتب الأدبية، ومتابعة الأعمال الاجتماعية عن بُعد، ويزداد محبةً وشوقا لرؤية أهله وأحبابه وأفراد مجتمعه عندما يزورهم في عطلة الأسبوع، وكأنه فترة استجمام.
يعيش الكثير من العوائل في مناطق بعيدة عن بلدتهم إما قسراً أو اختياراً لطلب الرزق أو الدراسة أو العمل، البعض منهم مكث أكثر من 20 سنة وهو في غربة عن بلدته، والبعض منهم استقر استقرارا كاملا في منطقة عمله أو دراسته فأصبح وطنه الثاني، ويزور أهله وأحبابه بين فترة وأخرى. ولا يرغب الرجوع إلى بلدته مطلقاً إلا في الزيارات والمناسبات.
بعض المناطق السكنية الهامة والحيوية تكون مزدحمة بكثافة سكانية عالية، ويأبى بعض الأفراد العيش خارج بلدته لأنها مسقط رأسه، يفضل أن يزحم نفسه وعائلته ويعيش في ضيق من المكان ومهما كلف الأمر ويأبى حتى لو أتيحت له فرصة الحصول على مسكن أو دراسة أو عمل خارج منطقة سكنه، أهم شيء عنده هو الراحة النفسية بأن لا يبتعد عن بلدته وفيها أهله ومجتمعه.
عندما أدرك الرسول الكريم بأن مكة المكرمة كانت غير خصبة في استقبال نشر تعاليم الإسلام وتثبيت دعائم الدين والنظام السياسي والاجتماعي هاجر إلى المدينة المنورة مع أهله وأصحابه المهاجرين لتكوين أول مجتمع إسلامي وإقامة دولة إسلامية بقيادة رسول الله وذلك بالبيعة والهجرة لتكون أول عاصمة للدولة الإسلامية المباركة، وفيها تم تحقيق الإنجازات مثل بناء مسجد قبا الذي أسس على التقوى وهو أول مسجد بني في الإسلام، وتم بناء مسجد الرسول الكريم لأهميته بوجود مكان للمسلمين لعبادتهم ورمزاً لوحدتهم، ومقراً للحكم والقضاء، ومدرسة للتربية والتعليم، ومركزاً للقيادة وإدارة شؤون الدولة الإسلامية، ومن هذه الهجرة المباركة بدأ نشر الإسلام وتعاليمه في أنحاء المعمورة.
لو أنك قرأت سيرة الكثير من العظماء ومن حققوا إنجازات متميزة في حياتهم فتجد عامل الهجرة والغربة في حياتهم وهو محطة انعطاف لإنجازاتهم. قال الله تعالى في محكم آياته: [قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [العنكبوت: 20»، وهناك علاقة جميلة بين الابتعاد وتحقيق الإنجازات لمن أراد النجاح والتميز وهي: كلما ابتعدت عن موطنك اتسع فكرك وتعلمت الكثير من المهارات والمعارف الجديدة واكتسبت خبرات جديدة في الحياة، ولربما تتغير بعض القناعات والطبائع إلى الأفضل. ويساهم الانتقال لمجتمع أفضل من الناحية العلمية والمعيشية تحسين الدخل المادي للفرد، ونهضة فكرية متنوعة وتحقيق إنجازات متنوعة على الرغم من وجود أضرار للغربة بالابتعاد عن الأهل والأحباب.
بعض الأهالي يمنعون أبناءهم وبناتهم للتعليم في الجامعات أو اقتناء فرصة العمل البعيدة عن موطنهم خوفًا عليهم وحبًا فيهم، فدعوهم يتعلمون من مجريات الحياة فغربتهم تصقل شخصيتهم وأكثر اندفاعًا وتحركًا في تحقيق الإنجاز، وتزيدهم معرفة وعلمًا وخبرة في التعامل مع الحياة، وينتعش القلب حبًا وشوقًا باللقاء مع الأحباب، فكما قال الإمام الشافعي وتنسب للإمام علي بن أبي طالب :
تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلى** وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّيجُ هَمٍ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ **وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
فَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَغٌربَةٌ** وَقَطعُ فَيَافٍ وَاِرتِكابِ الشَدائِدِ
فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِه** بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ
سؤال التحدي الأسبوعي: رقم الآحاد للعدد 2 أس 97 يساوي:
أ» 2 ب» 4
ج» 8 د» 6
جواب سؤال التحدي للأسبوع الماضي: 120