وتمْتمتْ شفتاه
جُبناء..
رماهم بسهام عينيه وهو صريعٌ يتوسد الرمال
فارتعدوا وفرّوا
لم تكن سواهما تتحركان
كل شيء في جسمه توقف
أصبح لا يقوى على الحركة
سهام القوم
وحجارتهم
وسيوفهم
ورماحهم
أنهكت جسده.
امتلأ الكأس بالدم، فلم يعد يحتمل نقطة دم أخرى.
جسده استماح العذر منه بعد أن أُثخن بالجراحات، وذبل من العطش ونزف الدم، فيما الفرات يجري ملتوياً تتدافع أمواجه.
وهو يجود بنفسه، مضمّخاً بدمه، شديد العطش وقد أصبح ما بينه وبين السماء كالدخان، كل ذلك ولم يُرى أحسن منه وجهاً ولا أنور.
اختار لقاء الله.
صاح اللعين:
- انزلوا إليه وأريحوه!!
وبقلب ليس فيه من الرحمة شيئاً
بادَر إليه الأبرص، يحمل سيفه ليقطعَ به غُصناً من شجرة النبوّة
فرفسه برجله
وجلس على صدره، وقد ارتقى مرتقاً عظيماً طالما قبّله رسول الله
قبضَ على شيبتهِ المقدسة
وضربه بالسيفِ اثنتي عشرة ضربةً
واحتز رأسه المقدّس!
قتل مظلوماً، وذبح عطشاناً، ومات غريباً.
أمواجٌ من الذهول أصابت الجميع لهول ما يجري أمامهم؟!
عندها ضجّ الكون بالبكاء عليه
تزلزلت الأرض ونزفتْ
كُسفت الشمسُ
هبّت عجاجةٌ سوداء مُظلمة
أمطرت السماء دماً، واسودّت اسوداداً عظيماً حتى رؤيت النجوم نهاراً، وبكت عليه!
بعد أن فرّق بين رأسه وجسده، رأى الأعور الأبرص شفتي وراث الأنبياء المؤيّد من السماء تتحركان، قرّبه إلى أذنه فسمعه يقول:
- إلهي شيعتي ومحبي.
إنها أول كلمة قالها الرأس الشريف بعد قطعه، وكأنّه بهذه العبارة يدعو الله سبحانه بأن يرعى شيعته ومحبيه، ويصونهم ويحفظهم، ويغفر لهم.
إنه حجة الله.
مالَ القوم على الخيام فأشعلوا فيها النار
تراقصت ألسنتها كما يتراقصُ الشيطان
تسابق القوم على سلبِ ونهبِ حرائر الرسول
فرّت النسوة والأطفال
فرّت بنات الزهراء حواسراً مسلّبات باكيات
صراخهم يملأ الكون
يستغثن بصرعى للتو غفوا وناموا
من يؤوي هؤلاء الصغار المذعورين؟
الليل حالك الظلام، ظلام خيّم على أرض المعركة بجناحيه السوداوين، والرأس المنير يعتلي رأس الرمح ينظر المستقبل.
الأبرصُ ما يزال يتوق لمزيد من الدماء. اقتحم خيمة العليل، وقال:
- لا تدعوا منهم صغيراً ولا كبيراً.
جرّد سيفه يريد قتل الفتى، فقال قائل:
- يا سبحان الله أتقتل الصبيان؟! إنّما هو مريض.
انبرت العمّة الصابرة الشجاعة فتعلّقت به، وقالت:
- لا يقتل حتى أقتل دونه.
فكفّوا عنه.
صرخ اللعين بعسكره:
- من يقوم إليه، فيوطئ الخيل صدره وظهره؟
لم يترددوا بل بادروا، قام عشرة من الأعوجية رضضن جسده الطاهر بحوافرها، حتى سُمع صوت عظامه تتكسر، تتهشّم، تطحن!
ورأسه المقطوع يتقدم رؤوس أهل بيته وأصحابه مرفوعة على الرماح، ثمانية وسبعون رأساً لم تنحي لغير الله، أرواحهم حلّقت على أجنحة الطيور نحو السماء تشكو.
ومع أن رأسه المقدس فارق جسده المبارك، وبات سناما للرمح الطويل، إلا أن الرأس الشريف - الذي طالما سجد لله، والذي يحمل لساناً يردد دائماً ذكر الله. الرأس الذي يحمل العز والإباء، والذي يرفض أن يطأطأ جبهته للظالمين - ما يزال
بكلامه
ونظراته
ومواقفه
يحيط أهل بيته بعنايته ورعايته
ويوعظ، ويوقظ كل من له قلب سليم
فيهدي الخلق إلى دين الحق
ويرهب أعداءه ويخيفهم
فهم في قبالِ رأس الحسين جُبناء.