البشر والبطيخ!
عندما نقلبُ صفحاتِ الزمنِ الماضي، وتدورُ - كمسلسلٍ حلقاته مليئة بالتفاصيلِ والجزئياتِ الكبيرةِ منها والصغيرة وحتى الدقيقة والمتناهية في الدقة - في داخل عقولنا، عندها تستحضرُ أذهاننا مشاركة مع أفئدتنا ومشاعرنا وأحكامنا أناسيًا كثيرين مروا بذاكرتنا، وكانت لهم حصةٌ منها ومكان، يتسعُ ويضيقُ بحسبِ حجمِ التأثيرِ الذي تركوه فينا.
في ذلك الزمنِ كنّا نظنُ أنَّ كل مَن قابلناه في محطاتِ حياتنا وتعاملنا معه من بني البشر - سواءً عن قربٍ أو بعد، ومهما كانت نوعُ العلاقةِ معه - بأننا عرفناه حق المعرفة وأنه كان بمثابةِ كتابٍ مفتوحٍ بالنسبةِ إلينا، وقد تم تقييمُه والحكمُ عليه، وحكمنا عليه هو الذي حدد علاقتنا به واستمراها معه، ولكن هل كان حكمنا صحيحًا وتقييمنا عادلًا لأولئك الناس وفي ذلك الوقت؟!
هو سؤالٌ كبيرٌ جدًّا ومتشعب، وكل مفردةٍ منه تولِّدُ لدينا علامةَ استفهامٍ، ولكي نجيبَ عن كل تلك العلاماتِ الممزوجةِ بعلاماتِ التأثرِ والتي لا تخلو من التعجبِ والدهشة، نحتاجُ إلى أمورٍ كثيرةٍ بعضها مؤلمٌ وبعضها مفرح، وبينَ الألمِ والفرحِ تنبثقُ إجاباتنا، لنكتبها في صفحاتٍ متعددةٍ تفوقُ صفحاتِ ذكرياتنا، هذا لو أردنا أنْ نكونَ منصفين مع كل أولئك الناسِ الذين كونّا علاقةً معهم!
إنّ مَن تنطبقُ عليهم صفاتُ البشريةِ هم كتلةٌ هائلةٌ من الأسرار، وصندوق أسود مليء بالحكاياتِ والتعقيدات، وعمق معتم لا يمكنُ سبر أغواره والوصول إليه، وما سيطفو فوقَ السطحِ منه ما هو إلا فتات وضحالة من الحقائقِ التي عرفناها عنهم؛ لذا فإن من المرجحِ ألّا تخلو أحكامنا عليهم من الضعفِ والخللِ وعدم الدقة، والاستعجال والتسرع هما عاملان مضللان يقومان بعمليةِ تشويشٍ وإرباك، وضبطهما يحتاجُ إلى هدوءٍ ورويةٍ وتبصرٍ ودراسة؛ حتى نستطيعَ أنْ نفكَّ طلاسمَ ذلك الصندوق ونفهم لغته، ومن ثم نصدر حكمنا بناءً على حقائقَ ثابتةٍ وراسخةٍ وصادقةٍ بعيدًا عن العواطفِ والميولِ التي تؤثر تأثيرًا سلبيًا على مجمل أحكامنا.
معرفة حقيقة البشر ليست بالأمر الهين، وأظنها من السهل الممتنع، لأننا في كل موقف سنكتشفُ أمرًا، وفِي كل حادثة سنعرفُ سرًّا، وفِي كل مشكلة سيتشكلُ لدينا انطباعًا؛ وهذا بدوره يغيرُ نظرتنا إلى البشر، فمن المديحِ والثناءِ والإشادةِ إلى الذمِّ والانتقاصِ والثلب، وهذا التضاد الواضح والبائن يؤكدُ على صعوبةِ الموضوعِ وتعسُّره، إلا في حالاتٍ نادرة أخذت وقتًا زمنيًّا طويلًا؛ فاكتسبت الفهم الصحيح والمعرفة الحقيقية لبعض البشر.
إننا نرى القشورَ بكل تفاصيلها ولكنها تبقى - كما هو معناها وحدودها - قشورًا، أما الداخل واللب والعمق فيستعصي علينا رؤيته دفعة واحدة، بل ترينا إياه الأيام والسنوات تدريجيا وببطءٍ شديد، هذا إن سمح لنا الناس برؤيته، وإلا ستبقى الحقيقةُ الواضحةُ اللائحة، والتي نقتبسها من كلامِ الفيلسوفِ بنجامين فرانكلين عندما قال ”البشر والبطيخ من الصعب أن تعرف حقيقتهم“.
هل عرفت لماذا تبقى في حيرة من أمرك عندما تشتري البطيخ؛ حتى تعود إلى منزلك وتكتشف الحقيقة؟!