الإمام علي (ع) والإنسان

الإنسان حتى يصل إلى مراتب الكمال لابد وأن يتدرج فيها حتى يوفق إلى ما يريده من المراتب العليا إلا أن هناك مَن خلقه الله سبحانه عليها منذ أن فتح عينيه على الوجود وهم أولئك الذين خصهم الخالق تعالى بخاصته وقربه، أولئك الذين عصمهم وطهّرهم تطهيرا ولا شك أن على رأس هؤلاء وفي مقدمتهم الرسول الأكرم وأهل بيته الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ومن يعرف أهل البيت يعرف أن في مقدمتهم أمير البشر علي كيف لا وهو مَن لم يحار بيانه في الإبلاغ والإفصاح عن كل شاردة وواردة، ونحن هنا نحاول أن نُمتع القارئ الكريم ونستمتع معه بشيءٍ من كلام الأمير سلام الله عليه عن الإنسان وخلقه وعلته وقيمة الإنسان وكماله وغيرها مما تحدث به في هذا الجانب الإنساني وكيف رسم الطريق للإنسان للعمل والفوز بالدارين.

خلق الإنسان وعلة وجوده: -

يقول في ذلك «ثم جمع سبحانه من حَزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت ولاطها بالبلّة حتى لزبت فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت وأصلدها حتى صلصلت» «1».

ويقول في موضع آخر «أعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم» «2».

فبدأ ببيان خلق الإنسان من حَزن الأرض وترابها واسترسل في الوصف حتى وصل إلى تركيب الأعضاء وكيف تماسكت بإذن الله سبحانه، وفي المقطع الأخير يبين ماهية حواس بني آدم ويبدأ بالتعجب حتى يلفت النظر إلى ما بعده من الحقائق من كيفية نظر الإنسان وكلامه وسمعه وتنفسه.

ومن جهة أخرى يؤكد الأمير في كثير من أحاديثه وخطبه وأقواله على أن علة الخلق والوجود إنما هي العبادة والطاعة تقريرا لقوله تعالى «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون» «3».

ويتضح ذلك جليا في كثير من أقواله كما أسلفنا، ومن ذلك قوله «بتقوى الله أمرتم وللاحسان والطاعة خلقتم» «4».

ويستمر صلوات الله عليه في بيان هذه الحقيقة وأنها الغاية من الوجود، فيقول وهو يدعو الناس إلى الجهاد «إن الله قد أمركم بدينه، وخلقكم لعبادته، فأنصبوا أنفسكم في أداء حقه» «5».

فموطن الشاهد في الحديث هو قوله وخلقكم لعبادته والتي كما قلنا أنها العلة والغاية من خلق الإنسان.

قيمة الإنسان: -

بعد أن يعلم الإنسان العلة من وجوده لابد أن يبحث عن نفسه وعن قيمته لكي يحيى تلك القيمة وهو على بصيرة من أمره وإذا أدرك ذلك فعليه أن يسعى إلى تحسين تلك القيمة وإبرازها لذلك يقول الأمير «قيمة كل امرئٍ ما يحسنه» «6»، والقيمة هذه الكلمة المعنوية العالية التي عدة من روائع الأدب العلوي حتى قال محمد بن حفصة «لا يعرف كلمة بعد القرآن وبعد كلام رسول الله أخصر لفظا ولا أعم نفعا من قول أمير المؤمنين قيمة كل امرئٍ ما يحسنه، وكان ينشد: -

قيمة المرء مثل ما يحسن المرء.... قضاء من الوصي علي» «7».

البصيرة: -

لم يترك الأمير شاردة ولا واردة من شأن الإنسان إلا وتحدث فيها وبينها فبعد أن يدرك الإنسان قيمته يكون على بصيرة من أمره وكيف يكون على بصيرة من أمره؟، هذا ما يحدثنا به سيد البلغاء والفصحاء، فيقول بعد أن يقرر أن الإنسان يكون على بصيرة من أمره إذا أستطاع أن يتعرف ويعرف الحق من الباطل ويبّن الفضيلة من الرذيلة وأن تتمكن النفس من سلوك الصراط المستقيم والنهج القويم على المحجة البيضاء الواضحة وبهذا يكون قلبه سليم وقد أدرك البصيرة.

وحتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره لابد وأن يعي ما قاله الأمير في بيان ذلك بأن لا يجرأ على الذنب ولا يغتر بالمولى المتعال وأن يرحم نفسه التي قد تؤدي به إلى الهلكة «يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك وما غرّك بربك وما آنسك بهلكة نفسك» «8».

سيطرة الإنسان: -

من النتائج الطبيعية نفسيا وتربويا وأخلاقيا إذا كان الإنسان ذا بصيرة في دينه ونفسه سيطر عليها وكان بيده قيادتها إلى الخير والصلاح وذلك بقوة العقل وإعمال الفكر وبعد ذلك كله يستطيع هذا الإنسان صاحب الخير والصلاح القوي في عقله وإعمال فكره السيطرة على العالم بأسره وهذا ما يقرره أمير المؤمنين في قوله «أتزعم أنك جرم صغير وفيك أنطوى العالم الأكبر» «9».

الإنسان الكامل: -

ونبقى نتدرج في سلّم بناء الإنسان مع زعيمه الثاني بعد الرسول الأعظم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام لنصل إلى الكمال الإنساني وكيف يتحدث عنه الأمير وماذا يقول عنه وبماذا يصف هذا الكمال حيث يلخّص لنا بعض النقاط الأديب المسيحي الكبير جورج جرداق في كتابه القيّم «علي صوت العدالة الإنسانية» ففيه أكد أن الإمام علي ، «كان يتصف في كماله بالذكاء وعمق الادارك ومتناسق في طرح الأفكار ينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار، كان يمتاز بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم.

كان لا يتكلف الكلام كلماته جياشة بقلبه منطلقة على لسانه، عفو الخاطر لا عنت ولا إجهاد، كان ذا عقل قوي وعاطفته شديدة، يسهب في العلم فيصف خفايا الخلق ويضع للخلق دساتير وللأخلاق قوانين» «10».

الإمام علي والنظرة الإنسانية: -

بعد أن علمنا بأن الإمام علي يعد أنموذجا فريدا في الكمال الإنساني وما يتميز به من تلك الصفات التي وهبها إياه العزيز الحكيم ولابد وإن تكون لديه نظرة للإنسان ليصل به إلى ذلك الكمال أيضا فحتى نرتقي إلى ذلك النموذج الإنساني المتكامل نستمع إليه حيث يقول بعد أن يقسّم في نظريته الناس، إلى قسمين «أنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» «11».

فكم هي نظرة شمولية ترقي بالإنسان إلى درجة الأخوة بمعنى أن له ما لك وعليه ما عليك وعدم التفريط في أي حق من حقوق واجب الأخوة في الدين والعقيدة.

ثم يعقب ليؤمن حتى غير المسلم لأنه شبيه لك في الخلق ونظير لك في الإنسانية فيجب رعايته وعصمة دمه وإعطاءه حقه.

الإمام علي وحقوق الإنسان: -

نظرة الإمام علي كما قلنا أنها شاملة للإنسان منذ بداية خلقه ولذلك كان لنصيب حقوقه في حياته ودولته النصيب الأكبر والأوفر فيكفي الإمام علي أنه هو الذي أعطى الإنسان قيمته الوجودية الحقيقية ورفعه إلى مستوى التطبيق العملي لقوله المشهور «العبودية جوهرة كنهها الربوبية» «12».

ويواصل الأمير في حفظه وحفاظه للإنسان وحقوقه فيقول «جورج جرداق» «إن عليا أبى على جنده وهم في حال من النقمة والسخط أن يقتلوا عدوا، وأن يتركوا عدوا جريحا فلا يسعفوه، كما أبى عليهم أن يكشفوا سترا أ ويأخذوا مالا» «13».

فهذا هو علي كيف كان رحيما بالإنسان ويتضح ذلك جليا في أعطائه حقه وعدم تضييعه، كيف لا وهو القائل لأنصفن المظلوم من الظالم، كيف لا وهو يصل بنا إلى قمة المساواة وقمة الحق في قوله صلوات الله عليه «أحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها» «14».

الإمام علي وقلبه الكبير وكرمه وعدله الإنساني: -

الإمام علي هو خير من عرف حق الإنسان فلذلك احتضنه في قلبه وأعطاه من كرمه المعنوي والمادي وغمره بعدله حتى يصور لنا أحد الكتّاب مدى أتساع قلبه حيث يقول «قد أتسع قلب الإمام علي حتى أصبح بحجم آمال الإنسان وآلامه لان ذلك القلب الدافئ لم يسع لتلك الآمال والآلام في زمنه فحسب بل كان قلبه دائما وأبدا المحراب العظيم الذي نلوذ به ونلجأ إليه» «15».

وما لصاحب القلب الكبير إلا صفات الكمال الإنساني كما قلنا في بداية البحث فهو الشجاع وهو الكريم وهو صاحب العدل الإنساني أيضا، فمن كرمه صلوات الله عليه «أن جاء أعرابي وقال له يا أمير المؤمنين أني مأخوذ بثلاث علل، علة النفس وعلة الفقر وعلة الجهل، فأجابه قائلا علة النفس تعرض على الطبيب وعلى الجهل تعرض على العالم وعلة الفقر تعرض على الكريم. فقال الأعرابي أنت الكريم وأنت العالم وأنت الطبيب، فأمر له بأن يعطى ثلاث آلاف درهم من بيت المال، وقال تنفق ألفا بعلة النفس، وألفا بعلة الجهل، وألفا بعلة الفقر» «16».

ومن عدله قولته المشهورة التي تنبأ بشكل واضح جدا عن دقته في عدله وفي ميزانه وفي خوفه من المولى تبارك وتعالى، يقول «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها لب شعيرة ما فعلت» «17».

حث الإنسان على التقوى والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة: -

من كانت هذه صفاته وهذه إنسانيته ومدى معرفته بالإنسان لابد وإن يصل به إلى الكمال ألا متناهي وأهم ركيزة في ذلك حثه على التقوى وطاعة الجليل جل شأنه، «أعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يُحرز من لجأ إليه، ألا بالتقوى تقطع حُمَة الخطايا، وباليقين تدرك الغاية القصوى «18».

فإن لم يكن ذلك من التقوى والطاعة فلا خير في الدنيا وتكون بذلك زهيدة لاسيما عند المؤمنين ورجال الله والآخرة هي دار المقر ودار البقاء وهي عند الله خير وأبقى للذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا، وفي هذا الصدد يقول الأمير «صلوات الله عليه» «أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم» «19».

ومن يريد أن يسعد في الدنيا والآخرة يجب أن يسمع لصوت العقل والضمير الحي، صوت علي في التوجه إلى الله والرغبة إليه وطاعته حتى يصل ذلك الإنسان إلى ما أراده الله منه بأن يصل في الدنيا إلى مدارج السمو والكمال وفي الآخرة إلى السعادة والجنة وبالعمل الصالح نصل إلى هذا المبتغى ويفوز بني آدم بما أراده المولى له «وهذا هو الميزان الذي على أساسه يكون تكريم الإنسان وتقييمه» «20».

 

«1» - الريشهري، الشيخ محمد - موسوعة الإمام علي في الكتاب والسنة والتاريخ، ج 10 - ص 177 - ط 1,1421 هـ - دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت لبنان.
«2» - القمي، العلامة الشيخ عباس - شرح حكم نهج البلاغة، ص6 - ط 1,1429 هـ ، 2008م - دار جواد الأئمة - بيروت لبنان.
«3» - سورة الذاريات الآية: 57
«4» - المعتزلي، ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة، ج 3 ص 108 - ط 1,1407 هـ ، 1987م - دار الجيل - بيروت لبنان.
«5» - المصدر السابق: ص 185
«6» - القرشي، العلامة الشيخ باقر شريف - موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ج 6 ص 85 - ط 1,1423 هـ ، 2002 - مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية - قم المقدسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
«7» - المصدر السابق: ص 85
«8» - الإمام علي بن أبي طالب - نهج البلاغة «شرح الشيخ محمد عبده» ص 497 - ط 5، ه1412,1992م - دار البلاغة - بيروت لبنان.
«9» - المهاجر، العلامة الشيخ عبد الحميد - الإمام علي سيرته الذاتية وفكره الحضاري ج1 ص 322 - ط 1,1412 هـ ، 1992م - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت لبنان.
«10» - جرداق، جروج - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ج3 «علي وسقراط» ص 186 - 187 - ط 1,1423 هـ ، 2003م - دار ومكتبة صعصعة - جد حفص مملكة البحرين.
«11» - نهج البلاغة: ص 604
«12» - هيفا، راجي أنور - الإمام علي في الفكر المسيحي، ص 218 - ط 1,1426 هـ - 2005م - دار العلوم - بيروت لبنان.
«13» - المصدر السابق: ص 219.
«14» - جرداق، جورج - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ج1 «علي وحقوق الإنسان» ص 103 - ط1,1423 هـ ، 2003م - دار ومكتبة صعصعة - جد حفص مملكة البحرين.
«15» - الإمام علي في الفكر المسيحي: ص 231.
«16» - المنصوري، ضياء - أنفع اللطائف، ص 177 - ط 1,1424 هـ ، 2003م - مؤسسة البلاغ - بيروت لبنان.
«17» - عقيل، محسن - الكشكول المسلّي، ص 638 - ط 2,2002م - دار المحجة البيضاء - بيروت لبنان.
«18» - نهج البلاغة: ص 342.
«19» - المصدر السابق: ص 466.
«20» - الأديب، محمد طالب - رحلة في آفاق الحياة «ألف كلمة وكلمة للمجدد الشيرازي الثاني»، ص 30 - ط 1,2004م - دار العلوم - بيروت لبنان.