احتكار الحقيقة.. الوهم الكبير
يبدو أن ”وهم الحقيقة المطلقة“ الذي يُصرّ البعض على امتلاكه واستخدامه في كل نقاش وموقف، ما زال يُمثّل الاختبار الحقيقي لتسامح البشر، بل واحدا من أهم المعضلات الرئيسة التي تسببت - وما زالت - في تراجع وتدهور بوصلة الفكر والوعي الإنساني، خاصة حينما يعتبر البعض نفسه ”الترمومتر“ الدقيق الذي يقيس درجات الخطأ والصواب لدى البشر.
هذا الوهم الكبير المتمثل بامتلاك الحقيقة المعرفية والصوابية الكاملة، ليس نتاج العصر الحديث بتعقيداته وتداخلاته، بل هو كارثة أزلية مارسها البشر منذ البدايات الأولى لتطور وتقدم المسيرة البشرية، ورغم كل ما قامت به الأديان السماوية والقوانين الأخلاقية من تحذير وتجريم لهذا الوهم الخطير، إلا أنه ما زال يتمدد ويكبر بكثافة وسرعة في كل تفاصيل حياتنا الصغيرة والكبيرة.
ولمقاربة هذا الداء الخطير، سأضع على عجل وبشيء من المباشرة الأسباب والنتائج والحلول لوهم امتلاك الحقيقة الكاملة.
من أهم الأسباب والدوافع التي أدت إلى ذلك، هي طريقة التربية والتهيئة الخاطئة التي تُغرس في فكر وقناعة الأجيال الصغيرة والشابة، إضافة إلى غياب ثقافة الاختلاف والتنوع والتعدد في الكثير من ملامح وتفاصيل الحياة، وكذلك جنوح الرغبة والأنانية لدى البعض لكسب القيمة والمكانة في المجتمع من خلال احتكار الحقيقة والصواب.
أما نتائج وآثار هذه الصفة السلبية فخطيرة ومؤثرة، فهي تتسبب في صنع حالة الانقسام والتباين الحاد بين مكونات وتعبيرات المجتمع وتزيد من منسوب ومساحة الاستقطاب والتنافر بين الأطراف والقوى المختلفة، إضافة إلى تعاظم حالة الاحتقان والتأزم بين أفراد ومكونات المجتمع بشكل سيؤثر كثيراً في مسيرته التنموية، كذلك ستغيب مؤشرات الشغف والرغبة المستمرة في التعلّم والتطور للأفراد والمكونات نتيجة الانشغال والتصادم مع ملاك ومدعي الحقيقة الكاملة.
أما الحلول والتصديات لهذه المشكلة الخطيرة، فتتطلب الكثير من الوعي والصبر، لأنها مخاتلة وحرباوية، تتمظهر وتتلون بشكل سريع ومتجدد، ولكن أهم الحلول هي: أن تُمارس مؤسسات التنشئة الاجتماعية ”الأسرة والمدرسة والمسجد والبيئة المحيطة“ دورها الفاعل والمؤثر في تدريب النشء على تقبل الاختلاف والحوار وقبول الرأي الآخر، كذلك الإعلام بمختلف أشكاله ومنصاته بحاجة ماسة لأن يُكثّف رسائله ومحتواه الأخلاقي والتوعوي للتشجيع على كسر ثقافة الاحتكار وتعزيز ثقافة التنوع، أيضاً يقع على المجتمع المدني عبر رموزه ومؤسساته الدور الكبير لصنع أفكار ومبادرات مجتمعية تُعلي من ثقافة التسامح والانفتاح والوسطية وتنبذ مظاهر التشدد والغلو والعنصرية.