موسم عاشوراء.. عِبرة وعَبرة

تُعد العشرة الأولى من شهر محرم الحرام من كل عام هجري الذي يحيي فيها المسلمون الشيعة مناسبة شهادة سبط رسول الله المصطفى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ، وشهادة من كانوا في الركب المبارك من أهل بيته الأطهار «صلوات الله عليهم أجمعين»، الواقعة عام 60 للهجرة على أرض كربلاء، فهو يعد موسمًا دينيًّا وثقافيًّا وتوعويًّا، وفي هذا الموسم العاشورائي يكون غالب الخطباء قد انتهوا من التحضير بعد أن مضوا أوقاتًا طويلة في الإعداد والتنقيب في بحر المراجع العلمية، واستعدوا لبث برنامجهم الثقافي والديني والاجتماعي، إذ أصبح كل واحد منهم يحمل حقيبة علمية قد أعدها بعناوين علمية مختلفة.

وبتنوع وتعدد الخطباء والمحاضرات، يحصل المتلقي على زاد علمي هائل أثناء مشاركته في هذا الموسم العاشورائي، باعتبار تنوع المحاضرات الفكرية يعني تنوعًا في وجهات النظر وفي الاختلافات الفكرية والدينية والثقافية.

موسم محرم الحرام العاشورائي عبارة عن خضوع الفرد في دورات ثقافية شاملة ومكثفة، لذا ينبغي الحرص على استغلاله واستثماره بأحسن وجه، وعدم ضياع أو هدر أية ساعة فيه دون تحقيق هدف معين، أو إيجاد ضالة معرفية أو منفعة علمية، بل تعدُّ مجالس الإمام الحسين منارات علمية تنبعث منها الطاقات الروحية والعلمية، وميزة هذه المجالس الحسينية المباركة دون غيرها من المراكز العلمية والبحثية بأنها تدعو الآخر للحضور والمشاركة والاستماع والاستفادة من تلك المحاضرات العلمية والثقافية مجانًا، من دون دفع أي رسوم مادية، بل أكثر من ذلك تدعو وترحب بالجميع في المشاركة والاستفادة من دون تحديد هوية الآخر.

ويسعى جاهدًا كل قام على مثل هذه المجالس الحسينية أثناء الموسم أن يقدم أفضل ما لديه من إمكانيات، سواء على صعيد تهيئة المكان على مستوى الراحة النفسية والجسدية والذهنية، أو على مستوى الخطيب الذي يستقطب به أكبر عدد من المستمعين، إذ يجعلك تشعر تعيش أجواء حسينية تنافسية في العطاء الفكري والرثاء الحسيني من بين المجالس القائمة لإحياء هذه المناسبة الخالدة.

وغالب الخطباء الكرام استعدوا لهذا الموسم العاشورائي، وأجهدوا أنفسهم ليل نهار في التحضير والبحث والتنقيب في الكتب المختلفة والمراجع والموسوعات العلمية في سبيل تقديم الفائدة العلمية للجمهور القادم والمتهيئ للاستماع إليهم، إضافة إلى بحثهم وتعرضهم إلى المشاكل الاجتماعية العامة والخاصة ووضع المعالجات المناسبة لها، وهذا بالتأكيد لا يأتي من فراغ أو عدم اطلاع، بل ببحث ودراسة وتمحيص لهذه القضايا، وقد يأخذ إعداد هذه المعالجات وقتًا طويلًا من التفكير والبحث، وربط بعضها بالمحاضرات العلمية والدينية والثقافية والاجتماعية لتحصيل فائدة أعم وأكبر، وقد يستغرق جهدهم شهورًا لإشباع هذه المحاضرات بالفكر العلمي المتنوع بالقدر الممكن لكي يتم تقديمها بالشكل المقبول والمرضي للجمهور.

لهذا ينبغي لكل فرد منا أن يكون على أهبة الاستعداد لهذا الموسم العاشورائي محاولًا تنظيم برنامج مميز له، يملؤه بالتنوع للاستفادة من هذا الزخم العلمي والروحي الذي تبثه هذه المناسبة الحسينية، وخاصة أن هذا الموسم المبارك منذ يومه الأول يبدأ بتهيئة وبث برنامجه العاشورائي ليلًا ونهارًا، لكي يعطي حق إحياء المناسبة الشريفة، وكذلك لتعم الفائدة لعدد أكبر من الناس، بحيث الذي لم يستطيع الحضور والمشاركة صباحًا، لديه فرصة أخرى ليلًا، والمتمكن للحضور والمشاركة في الفترتين فليستثمرها في نيل الثواب والأجر وتلقي العلم والمعرفة، وإن كان في المحاضرة تكرار وإعادة فهذا جيد، فالإعادة تثبت المعلومة ذهنيًّا، وهذا متعارف عليه علميًّا، كلما كررت الاستماع أو القراءة استطعت وتمكنت من حفظ هذه المعلومات المحصلة وتمكنت من اكتشاف شيء آخر منها.

ومن سمات الموسم العاشورائي أنه لا يقتصر في عطائه على المستوى الفكري والديني فحسب، إذ إنه لا يتوقف على هذا الجانب الفكري في التنوع وفي تقديم أجود المحاضرات الدينية والعلمية والتاريخية والثقافية والأخلاقية، وإن كان هذا يشكل مخزونًّا علميًّا ثمينًا وإضافيًّا لا غنى عنه، بل هو هدف أساس يسعى له كل فرد، ففي المقابل الغذاء العقلي هناك كذلك غذاء روحي ونفسي ينتظره كل مستمع لهذه المجالس المباركة، وذلك عبر الرثاء الحسيني الذي يقوم عليه بعض الشعراء والخطباء الروحانيون وأصحاب الحناجر الحسينية المميزة في صوتها وأدائها في تحريك المشاعر والأحاسيس القلبية نحو المصيبة والفاجعة العظمى التي جرت على الإمام الحسين وعائلته وأصحابه.

ذلك أن الحزن والبكاء على المصيبة يعد أمرًا رئيسًا ضمن هذا الموسم العاشورائي، لأن فيها تقديم المواساة لرسول الله وأهل بيته الأطهار «صلوات الله عليهم أجمعين»، ورغَّبت الروايات الشريفة في هذا الجانب. ورد عن الإمام الرضا فِي حَدِيثٍ: ”فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ“ ثُمَّ قَالَ : ”كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكًا وكَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى تَمْضِيَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وحُزْنِهِ وبُكَائِهِ ويَقُولُ هُو الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ “.

والعطاء الروحي لا يقل أهمية عن العطاء العقلي، فلكل واحد منهما له دور رئيس في تحسين المستوى الإنساني في فكره وسلوكه، وهذا يتطلب من أصحاب الرثاء أن يقوموا بجهد واستعداد مماثل بتقديمهم للخطباء المفوهين في العطاء الفكري، وينبغي أن يكون عندهم عصارة من التعب والتفكير في إيجاد وابتكار أطوار حسينية جديدة ومؤثرة عاطفيًّا، وهذا لا يتم إلا عبر صناعة برنامج رياضي وصحي يومي بالتمارين الخاصة لتحسين طبقاتهم الصوتية إلى المستوى الأفضل والأحسن والأجود، لأداء رثائي عاشورائي مميز يتناسب مع عظمة المصيبة والفاجعة الإنسانية الكبرى بسرد حقائقها التاريخية بأسلوب رثائي راقٍ يملؤه الحزن والأسى.

إذًا، فلنكن مستعدين ومتهيئين لهذا الموسم الحسيني العاشورائي المبارك فكرًا وعاطفة، فهو أيضًا موسم العَبرة والدمعة واللطمة، الذي فيه روح سبط رسول الله المصطفى الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه تزهق وتصعد إلى بارئها مودعة هذه الدنيا الفانية وهي مخضبة بدمائها الشريفة والطاهرة وشاهدة على هذه الأمة، وهي منتصرة ومحققة أهدافها الإصلاحية في أمة جده رسول الله وبما سار عليه أبوه أمير المؤمنين ، وخلاص الأمة بما حل عليها من بلايا الزمان وجوره، من تحريف في دين الله وشريعة رسول الله المصطفى ومحاولة اغتصاب تاريخ أمة النبي خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله .

وبهذه القرابين الطاهرة الذي قُدمت لأجل إنقاذ الإسلام والأمة من الضياع والنسيان، بثت روح الحياة مرة ثانية في جسد هذه الأمة وإعادة اعتبارها ودورها الريادي والديني إلى مركزه في نفوس الأمة التي كانت عليه في حياة جده رسول الله وبما كان عليه أبوه أمير المؤمنين .

واستيقظت واستنهضت الأمة من سباتها العميق بعد هذه الثورة المباركة، وأخذت تقوم بدورها الديني والإنساني عبر قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل أشكاله وأنواعه السلمية، وما نحن عليه اليوم من بركات ونِعَم في الدين والعبادة في إحياء الشعائر الدينية من صلاة وصوم وحج ونحو ذلك، كان نتيجة تلك الدماء الطاهرة الذي سألت على أرض كربلاء أثناء المواجهة الذي حصلت بين الإمام الحسين وبين دولة بني أمية الذي يتزعمها آنئذ يزيد بن معاوية، في هذه المواجهة العسكرية كان هناك مشهد وهو الأخير في المعركة المقدسة اهتز له عرش السماء حين أصبح الإمام الحسين فريدًا وحيدًا لا ناصر له ولا معين، صارخًا تلك الصرخة المدوية: هل من ناصر ينصرنا؟ هل من معين يعيننا؟

في هذه المعركة كان هناك في المقابل الإمام الحسين يواجه جيشًا عسكريًّا جرارًا بما يقارب أربعة آلاف جندي أو يزيد أكثر، وكانوا مدججين بالسلاح والعتاد لمواجهة فرد واحد هو الإمام الحسين، وفيهم من سمع تكرارًا ومرارًا وفي عدة مناسبات على لسان رسول الله يقول: ”حسين مني وأنا من حسين“، وهذا الحديث الشريف القوي في متنه ودلالته، يفهمه القوم جيدًا، وما خطه الإمام الحسين في عام 60 للهجرة كان سوف يقوم به رسول الله لو كان في موقف وموقع وزمان حفيده الإمام الحسين، وبنفس السيناريو ولا يعدل عن هذا الأمر قيد أنملة، لأن نفس النبي هي نفس الحسين، وعمل النبي هو عمل الحسين.

عظم الله أجورنا أجوركم.

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.