لماذا كل هذا الجدل العقيم؟
لا توجد مفردة عربية وجهت لها أصابع الاتهام والتشكيك كمفردة ”الجدل“، لدرجة أنها أصبحت العنوان الأبرز لكل معاركنا الكلامية وساحاتنا الخلافية، ليتحوّل الجدل بمختلف أشكاله ومستوياته، لاسيما جانبه السلبي، إلى ظاهرة مجتمعية مثيرة بامتياز. وكم هو مستغرب حدّ الجدل، ذلك الاختيار المثبّت باتجاه التعريف والتوظيف السلبي لهذه الظاهرة المجتمعية الخطيرة، فالجدل بمعناه وهدفه الحقيقي هو فن الحوار الأصيل للوصول إلى الحقيقة المنشودة وهو طريقة النقاش الضرورية لاستفزاز مكامن الفكر والوعي، ولكنه بكل أسف فُرّغ من معانيه الجميلة والإيجابية وحلّت محلها الاستخدامات والتوظيفات السلبية للجدل، ليتحوّل إلى خلافات ومماحكات وصراعات ونقاشات بيزنطية وسفسطة مُثيرة للشفقة.
وبعيداً عن التعريفات والتوصيفات، فالجدل في حياتنا أقرب إلى الصراخ والأنانية والشخصنة والخصومة وفرض الرأي بالقوة، في غياب واضح لكل ملامح الجدل السليم الذي يتطلب الهدوء والعقل والوعي والاحترام وقبول الرأي الآخر. وللجدال العقيم والنقاش السقيم، الحضور الطاغي في كل تفاصيل حياتنا، في بيوتنا ومكاتبنا ومجالسنا ومنصاتنا وشاشاتنا. الجدل الذي يكاد يسيطر على حياتنا، هو ذلك الجدل العقيم الذي لا يُفضي إلى حقيقة، بل على العكس تماماً، فهو الشرارة التي تُشعل الخصومة والعداوة بين الأخوة والأصدقاء.
لقد تحوّلت الجدالات العقيمة والنقاشات السقيمة إلى أسلوب حياة وطريقة تعامل بين مختلف التعبيرات والمستويات. كما أصبحت هذه الظاهرة المجتمعية السلبية، ممارسة مقبولة وظاهرة طبيعية، تحظى بالإشادة والإعجاب، وتحوّل ممارسوها إلى نجوم ورموز. وكم هو محزن أن تجد هذه الظاهرة الخطيرة مساحات وفضاءات ومنصات كبرى لكل من يبحث عن الشهرة والنجومية من خلال ممارسة فنون الجدل العقيم والتخصص بأساليب النقاش السقيم.
والجدل كحالة متقدمة من التنظير والوعي، نحتاجها كثيراً في حياتنا، لأن ممارسة الجدل والنقاش والحوار والاختلاف وغيرها من هذه المفاهيم والقيم الضرورية والصحية، تصنع فكراً واعياً ورؤية ثاقبة.
والكتابة عن هذه الظاهرة الخطيرة وتوصيفها ومناقشة أسبابها وآثارها وطرق علاجها، تحتاج للكثير من المقالات والدراسات.
في المقال القادم، سأكتب عن الجانب المضيء والمفيد من الجدل، وسأنتخب خمسة من الأسرار الرائعة للحصول على جدل سليم وإيجابي.