أستحي أن تعلم الصلاة
أثناء تجولي في بعض المناطق القطيفية، وهي عادة أصنعها بين ألفينة والأخرى لأداء فريضة الصلاة: الظهرين أو العشاءين في أحد المساجد المنتشرة فيها، وكذلك لهدف تنشيط العلاقات الاجتماعية عند الالتقاء ببعض الأصدقاء القدامى للتعرف على أحوالهم عن قرب، وربما يتخللها بناء صداقات جديدة، سواء كان عبر الإخوة المقربين أو غير ذلك، وهذه الجولات حقَّقت لي كثيرًا من المكاسب الاجتماعية عبر التعارف الاجتماعي المباشر وأيضًا مكاسب فكرية وثقافية.
هنا أود الإشارة إلى حقبة ظلامية اجتماعية دينية في غاية الأهمية مَرَّ عليها المجتمع وبقيت بعض آثارها عند بعضهم، إذ ما زالت تثقل نفسه قبل رِجله في تخطي الحاجز النفسي لأداء الصلاة في مسجد/ مساجد لم يعتد التردد عليها، بسبب مشكلة صنعتها أحداث اجتماعية لها ربط بالجانب الديني؛ ما شكَّل فيما بعد حاجزًا نفسيًّا بينهم وبين تلك المساجد، ودعاهم إلى العزوف أو الانقطاع أو عدم التفكير في لذهاب إليها، بالرغم مما ورد في السنة المطهرة في ثواب وأجر زيارة المساجد والتعبد فيها باعتبارها تعد بيوت الله وأقرب مكان للالتقاء مع الله روحيًّا عبر إحياء الشعائر الإلهية فيها.
وبلا شك هناك عدة أسباب كوَّنت هذه الحواجز النفسية المانعة للوصول لبعض هذ المساجد، وهي في وجهة نظري غير مبررة؛ منها ما خلَّفتها بعض الثقافات السوداوية في حقبة زمنية معينة جرَّاء الاختلاف والتنوع المرجعي في المنطقة، وهذا التنوع المرجعي الديني يفرز نوعًا من الثقافات والأفكار المتباينة؛ إذ يعد يومها مستجدًا وفي مستوى متقدم على المنطقة ثقافيًّا ودينيًّا، ويعتبر وقتها على أنه حالة غير طبيعية من الناحية الدينية والاجتماعية؛ كون المجتمع على نسق واحد قبل تحول الغالب فيه من التوجه الأخباري إلى التوجه الأصولي، ومن ثَمَّ تفرعت المرجعيات الأصولية إلى عدة مراجع، وأصبح المجتمع يتشكل من تعدد آراء فقهية مختلفة، بل نجد في الأسرة الواحدة تعددًا مرجعيًّا وبمسائل فقهية متنوعة، وربما يصادف في المسألة الواحدة عدة فتاوى، وكل يعمل وفق فتوى المرجع الذي يقلده.
بسبب الحالة التي نشأ عليها المجتمع ولفترة طويلة من الزمن كان الرجوع إلى مرجع واحد وحكم شرعي واحد، وكان المجتمع يتمحور حول ثقافة وفكر موحد في كل شؤونه الاجتماعية؛ لذا كانت غالب المساجد تأخذ طابعًا فكريًّا واحدًا. وبعد تغير الحالة الدينية التي كان المجتمع عليها، أصبح كل مسجد له صبغة مرجعية معينة، ولا يتردَّد عليه إلا لمن يرجع لنفس المرجع الذي يقلده، لدرجة أنه حتى في إحياء أية فعالية دينية أو فكرية أو ثقافية بالرغم من أنها تحمل كثيرًا من المشتركات إلا أننا لا نجد غالب الحضور إلا من نفس الوجوه التي تتردد على نفس المكان.
نحمد الله أن هذه الحالة السيئة والمنفرة وغير الطبيعية «لا عقلًا ولا وجدانًا ولا اجتماعًا ولا إسلامًا» بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، باعتبار أن الثقافة الإسلامية تلفظ هذا النوع من التفكير والسلوك الخاطئ شكلًا ومضمونًا، وهي ثقافة دخيلة على الحالة الإسلامية، وهي مدمرة، وتدعو إلى إنشاء حالة من التمايز المجتمعي والتفرقة وفصل طبقات المجتمع عن بعضها بعضًا؛ ما يسبب تصدُّعًا في البنية الدينية والفكرية والنفسية والإنسانية والمجتمعية، ونسأل الله أن تزول هذه الثقافة البغيضة كاملة في القريب العاجل بإذن الله تعالى في جميع مجتمعاتنا، وتسود مكانها روح الأخوة والمحبة والثقة والقبول والتعايش بكل ما فيها من تنوع ومن أطياف متعددة ومن متغيرات واختلافات دينية وفكرية وثقافية. هذه لمحة تاريخية مرت علينا أحببت المرور عليها للعبرة.
ذات يوم أوقفتني سيارتي عند أحد أبواب المساجد في منطقتنا وهممت بالدخول فيه لأسبغ الوضوء مقدمة للالتحاق بصلاة الجماعة بإمامة إمام المسجد، وعند التحاقي بالصلاة والانتهاء من الركعة الأولى من صلاة المغرب، التحق بالصلاة شاب ووقف بجانبي وكان يبدو أن عمره نحو ستة عشر ربيعًا. عندها رأيته لا يحسن كيفية الالتحاق بصلاة الجماعة، ولم يكن لي معرفة شخصية به، وكذلك لستُ من أبناء المنطقة ليسهل عليَّ الدخول معه في مسألة تصحيح طريقة التحاقه بصلاة الجماعة.
أُدرك مدى الحساسية التي يحملها هذا الجيل من الشباب تجاه الإرشاد والتوجيه ولمن يرشدهم ويوجهم وخاصة في هذه الفترة العمرية، وهي تعد بداية تكوين شخصيته واندماجه اجتماعيًّا وبنائه فكريًّا، ولأني لا أود أن أكون سببًا في نفوره من المسجد ومن هذه الحالة الإيجابية التي هو عليها؛ تغافلت عن التعليق عن الخطأ الشرعي المتعلق بكيفية انضمامه لصلاة الجماعة، بل أظهرت له إعجابي به؛ كونه شابًّا يهتم بأداء صلاته في المسجد وجماعة أيضًا، وهذا أمر في غاية الأهمية دينيًّا واجتماعيًّا، وأثنيت عليه جدًّا وأبديت إعجابي برائحة عطره الجميل، وهو فعلًا جميل ورائع، إلى درجة أني طلبت منه اسم ذلك العطر، وأن اختياره لهذا النوع من العطور يدل على ذوق عالٍ وأنه اختيار نخبوي، وهذا على ما يبدو مهَّد أرضية للتعارف بيني وبين هذا الشاب الخلوق، وقبل توديعي له طلبت منه يدعو لي ورجوته في ذلك.
في اليوم التالي تعمدت الذهاب للصلاة في المسجد نفسه لعلِّي ألتقي بالشاب نفسه، وبالفعل وُفِّقْتُ لذلك ومن ثَمَّ بادرته بتحية الإسلام فرد علي بتحية مثلها، ثم كررت إعجابي بعطره الزكي ذي الرائحة الجميلة، وعند حديثنا ذكرت له بأن التعطر لأداء الصلاة أمر مستحب وتنال عليه أجر كبير، وبهذا اللقاء الثاني والجميل تعمَّقت العلاقة بيننا، ثم قال لي وهو يمسك بيدي: إن شاء الله أراك غدًا، فما كان مني إلا أن توجهت له بالشكر ودعوت له بالتوفيق.
وفي ذات هذا اللقاء «الثاني» مع الشاب الخلوق كشفت له بعض الأخطاء أثناء أدائه لصلاة الجماعة، وفي اللقاء الثالث تعمدت التأخير قليلًا في الالتحاق بصلاة الجماعة ووقفت بجانبه وتعمدت أقوم بالأخطاء نفسها التي كان يقوم بها الشاب أثناء أداء الصلاة الجماعة، وبعد الانتهاء من الصلاة تبادلنا التحية والسلام، ومن ثَمَّ اقترحتُ على صديقي الشاب بأن لدي بعض الأسئلة الشرعية أرغب في طرحها على الشيخ «إمام المسجد»، فهل تشاركني بالذهاب لنستمع إلى الإجابات سويًّا من سماحته لتعم الفائدة؟ رحَّب بالفكرة جدًّا مع ابتسامة جميلة تعبِّر عن الرضا بهذا الاقتراح.
عند ذلك ذهبنا سويًّا لسماحته وطلبت الأذن منه لبضع دقائق لإيضاح بعض المسائل الشرعية، وما كان من سماحته إلا أن احتضننا بالتشريفات الأخلاقية الرائعة، فأخذت أطرح على سماحة الشيخ مسألة مسألة وبالتفصيل وصديقي الشاب كان يستمع إليَّ، وأخذ الشيخ يبيِّن حكم كل مسألة بالتفصيل.. شكرنا سماحته، وطلبت منه بعد ذلك الإذن بالانصراف.
أنا قمت بإعادة صلاتي حسب الحكم الشرعي، فإذا بصديقي الشاب يقول لي: أنا وقعت في هذه الأخطاء نفسها، وبالتالي يجب علي إعادة صلاتي مثلك، فكنت في منتهى السعادة عندما أوصلت الرسالة دون خسارة هذا الشاب من المجيء إلى المسجد وارتباطه بصلاة الجماعة، وكان ردي عليه: أظن يا صديقي أن هذا قرار صائب، ولن تأخذ منا إعادة الصلاة أكثر من عشر دقائق بالكثير.
وبعد الانتهاء من الصلاة قال لي صديقي الشاب أنا كان ودي أتعلم أحكام الصلاة من زمن طويل، بل كيفية الصلاة كاملة، ولكني كنت أخجل أن أطلب من أحد أن يعلمني كيفية أداء الصلاة بشكلها الصحيح، وأنت كسرتَ عندي حاجز الخجل وخاصة أنك كشفتَ لي أمرًا مهمًا كان يمثِّل لي حاجزًا قويًّا وهو الخوف من كشف أمري بأني لا أجيد الصلاة بشكلها الصحيح، فتبين لي أنه لا يوجد عيب من شخص أكبر مني سنًّا مثلك يخطئ في صلاته، ويسأل لكي يتعلم ويقوم بأداء الصلاة وفق ما يبتغي الشرع لا وفق خجلي من المعرفة عبر تمنعي عن السؤال ومن الحالة السلبية التي كنت عليها.