قراءات متباينة في مفهوم الدين وأهدافه
المتابع لبعض القراءات والآراء المتباينة على الساحة الثقافية والفكرية عند بعض المثقفين وبعض الكتاب في شأن الدين، يصل إلى نتيجة مفادها أن لديهم ضيقًا في الأفق وقلةً في الفهم ومحدوديةً في الاستيعاب لمشروع الدين وأهدافه السامية، وأن مشكلة هذه الأفكار تكمن في التباينية تجاه الدين الإسلامي بشكل خاص والأديان الأخرى بشكل عام، وأنها هي السبب الرئيس في تراجع المجتمعات العربية والإسلامية في تخلفها عن الركب الحضاري ثقافيًّا وتكنولوجيًّا وحداثيًّا، وهي المعوِّق الرئيس لعدم قبول الفكر الحضاري العصري بكل تموجاته وأشكاله تحت مفاهيم دينية مغلوطة ضد الثقافة المدنية والحضارية.
تاريخيًّا حتى لا ندعي أن هذه التهم والأفكار الظلامية مستجدة ضد أصحاب الأديان وإن كان بعضها قد مارس هذا الدور الظلامي في فترة تاريخية معينة، إلا أن المشكلة أصبحت معممة وراسخة على جميع الأديان، فمن يقود هذه الأفكار وهذا التيار قديمًا وحديثًا هم نفس المجموعة التي هدفها مسخ المجتمع العربي والإسلامي وتحويله الى صورة طبق الأصل من المجتمعات الغربية، ضاربين بعرض الحائط تاريخ وحضارة وقيم ومبادئ وأعراف هذه المجتمعات العريقة والأصيلة، وهي أسطوانة مشروخة اعتدنا عليها وأخذت تطرق أسماعنا بين ألفينة والأخرى وحسب الأجواء إذا سنحت إليها الفرصة لتعيد نشاطها على الساحة الثقافية والفكرية والدينية. عندما تأتينا أفكار هذا التيار الهزلية في تقديم فهمها وقراءتها عن الأديان بأنها مجرد مجموعة طقوس روحية لملء منطقة فراغ في كينونة هذا الإنسان لإشباع جانب من حياته، وعلى أنها مجموعة من الأفكار القديمة المنتهية الصلاحية وغير القابلة للتطوير أو التحديث لمواكب ثقافة الحاضر ومتغيراته واحتياجاته العصرية، فضلًا عن الكتل العدوانية التي تكتنزها هذه المجموعة على هذه الأديان ورموزها والتي قد تصل إلى العدوانية المشخصنة والبعيدة كل البعد عن الاختلافات الفكرية الجوهرية؛ عندها يُفهم أن الهدف ليس في الاختلافات الفكرية بين الفكرين هو الإصلاح والتطوير، بقدر ما هو مناكفة فكرية لا أكثر ولا أقل.
والمتفحص لرسالة هذا التيار نجد غالب فكره وأطروحاته وحواراته تتمحور نحو التوجيه إلى ثقافة انفتاح الآخر والتمظهر بها وإسقاطها على المجتمع، والقصد بالانفتاح على الآخر هو التفسخ الأخلاقي والسلوكي والوقوف ضد القيم والمبادئ التي يعتقد ويؤمن بها المجتمع الرافض لذلك الانفتاح المخالف لقيمها، والتي تعده مدمرًا لبنية المجتمع أخلاقيًّا وفكريًّا حاضرًا ومستقبلًا، وفي جانب آخر نحو ما يرتبط بدائرة الإثباتات المادية الملموسة وبالخصوص ما يرتبط بالمعتقد وبالإيمان القلبي والعبادي من القيم والمبادئ التي تحملها وتؤمن وتبشر بها هذه الأديان وبالخصوص الدين الإسلامي الذي يمثِّل بالنسبة لهذه المجموعات المناكِفة العقدة الأولى والأزلية منذ القدم حتى حاضرنا هذا، وبالرغم من طول هذه المدة العدوانية للإسلام ومطالبة المسلمين بما قدمه الآخر من اكتشافات واختراعات وابتكارات تكنولوجية وحداثية وغيرها، إذ لم نرَ هذا المطلب قد أنجز من قبل هؤلاء لا من ابتكار ولا من اختراع علمي وتكنولوجي يخدم به البشرية، أو أنهم ساهموا في اختراع علمي يقدم حجة على خصمهم المعنيين بأصحاب الأديان، وهي الحجة التي من ورائها ولأجلها حسب الظاهر يقاتلون ويعادون الأديان، وهي دعوة حق يراد بها باطل.
ويلاحظ أن تركيز هؤلاء على الحجج العقلية والبرهان العقلي، وهو الحجة البالغة عندهم، أي العقل وما يحكم به العقل وما يشهده ويثبته العقل تحت ما يُسمَّى بالمعادلات العلمية الحسابية التي تجبر العقل على التصديق أو التكذيب باعتبارها مبنية على أسس علمية، وهم أبعد الناس عن أهداف هذه المعادلات العلمية التي غايتها بحث علمي أو اختراع في بُعدها ولادة منتج أو اكتشاف يقدِّم لخدمة البشرية، وهذا لم نجد أحدًا منهم تبنَّى بحثًا علميًّا يضعه حجة أمام المسلمين، مع العلم أن مصدر أساس هذه العلوم هي من بطون الكتب الدينية الإسلامية التي يسعى البعض منهم حاليًّا للتنكر من أصولها حتى لا يكون لدين الإسلام أي فضيلة على أي علم لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، لكن التاريخ هو خير شاهد.
ولو رجعنا لقدرات عقل الإنسان، فإنه مهما كان محدود الإمكانيات في الفهم والتحمل والتحصيل العلمي، إذ لا يوجد إنسان على هذه الخليقة لا قبل ولا بعد قادر على حمل وفهم كل هذه المجاميع العلمية، حتى ولو كانت ما بين أيدي العالم سواء كانت قديمًا أو حديثًا، فإنها أصعب من أن يتحملها أو يفهمها عقل بشري واحد، غير المصطفين من العباد من قبل الله سبحانه وتعالى وهم الأنبياء والرسل والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، وهم «كما ذكرنا» مختارون من قِبل الله، وفي القرآن الكريم إشارة واضحة في تحديد الكيف لا الكم في طلب العلم من حملة العلوم الدينية أو الدنيوية حين قال الله تعالى: ”وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ“ ﴿التوبة: 122﴾، وهنا الإشارة إلى ”مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ“ وهذا ما يفهم، إذ ليس مطلوبًا من كل الناس أو الشعب أن يكون أبناؤه جميعهم علماء وأصحاب تخصصات واختراعات واكتشافات وإن كان العلم نورًا يُستضاء به، لكن المجتمع يحتاج إلى التنوع العلمي والمهني، لكي يكون مجتمعًا متكاملًا وقويًّا ومعتمدًا على نفسه؛ لهذا «التنوع» مطلب رئيس لصناعة مجتمع قوي.
والحياة بتنوعها الحركي والعلمي كلٌّ له مدخل معرفي مختلف عن الآخر، وهو ما يطلق عليه بالتفرد أو بالتخصص العلمي أو الخدمي أو المهني، فقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي في وصيته لكميل بن زياد: ”يا كميلُ ما مِن حركةٍ إلا وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفة“، وهذا يعني حاجة المجتمع للتنوع العلمي والخدمي والمهني، والإيمان بالتنوع الاجتماعي أمر المفترض أنه مفروغ منه عقلًا ومنطقًا، وكل علم تخصصي هو قابل للتطوير والتحديث حسب متطلبات المرحلة الزمانية والمكانية، وهذا يكون عبر طرق باب التطوير البحثي العلمي والمهني وفق قاعدة ”ما يمكن وما لا يمكن“ بوصفها قاعدة الثابت والمتغير، إذ القدرة على تحديث كل شيء ممكن ما عدا النصوص الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة. هذا لا يمكن تغييره أو تطويره لأنه من قِبل الله سبحانه، كما أن هناك بعض النصوص الشرعية قابلة للتطبيق وبعضها قابلة للتأجيل؛ لأن بعضها يلزم حضور المعصوم القاضي والآمر والقادر على تشخيص الحالة بدقة متناهية دون الشك في حكمها وتنفيذها ولا يكون شك ولو لذرة واحدة في النطق بالحكم فيه، بل يكون حكمه حقًّا وقاطعًا بالحجة والبراهين العقلية والبصرية وأنه بالفعل حكم الله لا مصدره اجتهاد عقلي بشري من علم مكتسب، وفي حالة غياب المعصوم «كما هو الحاصل في وقتنا الحاضر» يستنبط الحكم الشرعي من مصادر التشريع وفق قاعدة الاجتهاد الشرعي أو عبر القوانين المدنية التي لا تتعارض مع العدالة الاجتماعية، حتى لا تترك منطقة فراغ في المجتمع تتولد فيها الجريمة وتكون بؤرة أخلاقية فاسدة عند تركها دون عقاب رادع، ولكيلا لا تعطي الجريمة منطقة تترك تفعل ما تشاء دون عقاب رادع لها، ولحفظ المجتمع من اضطراب أمني ونفسي واجتماعي حتى لا يتشكل في المجتمع حالة من الفزع والخوف عند غياب القانون.
والأديان «والدين الإسلامي بالخصوص» لها أدوارها وأهدافها العليا، واحدة منها ضبط الحياة الاجتماعية عبر قوانين عادلة، وصناعة الحصانة الاجتماعية عبر زراعة الوازع الديني في نفوس أبناء المجتمع التي عن طريقه يتحقق الأمن وتزدهر الحركة الاقتصادية في البلاد، وهذا جزء من أعمال الدين الذي ينبثق من مجموعة من الاختصاصيين في فهمه، كما للعلوم الأخرى تخصصاتها وهم الاختصاصيون وهم المفوضون بهذا الدور في تطوير أو تحديث تخصصاتهم، ويبقى هذا التطوير في دائرة التخصص وليس هي دعوة عامة لكل من هبَّ ودبَّ.
وهنا على كل أهل تخصص أن يحترموا ويقدروا أهل التخصص العلمي الآخر، وكل علم ينبغي يكون داعيًا للعلم الآخر ويستفيد منه من دون إقصاء تحت أي عنوان يحمل تُهمًا جوفاء، وعلى الرغم من أن الدين الإسلامي فيه من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة الكثير في الحث على طلب العلم بشتى أنواعه الدينية والدنيوية، على أن يطلبه الإنسان وهو في المهد «إلى اللحد»، وهي صورة بلاغية لاهتمام الإسلام بالعلم وطالبه، وهنا ينبغي صب كل الاهتمام والوقت والجهود كل حسب تخصصه وعدم ضياعه في خصوصيات وصدامات مع الآخرين، وتذهب نتيجة تلك الجهود هباءً منثورًا.