فارس الطواحين ما زال بيننا
رغم مرور كل تلك السنوات الطويلة، ما زلت أحتفظ بذلك الكتاب الصغير الذي حصلت عليه كهدية ثمينة من ”الأستاذ فوزي“ معلم اللغة العربية في المرحلة المتوسطة، تشجيعاً منه لـ ”طالب نجيب سيكون يوماً ما كاتباً جيداً يُشار إليه بالبنان“. ”فارس الطواحين“، كُتيّب صغير من سلسلة ثقافية تستهدف شريحة الفتيان، زرع في وعي فتى صغير لم يتجاوز الثالثة عشرة عشق القراءة، وتحوّلت لهواية مفضلة وأثيرة، بل ولعنة جميلة ومستمرة.
في ذلك الوقت، لم أدرك جيداً كل الجواهر والرسائل والإسقاطات التي غصّت بها تلك القصة المثيرة، لكنني شغفت كثيراً بمغامرات وأحلام وخيالات بطلها ألونسو كيخانو. رواية ”دون كيشوت“ بجزأيها للأديب الإسباني ميغيل دي سرفانتس ”1547 - 1616“ والتي تُعدّ واحدة من أهم وأشهر الروايات العالمية والتي تُرجمت لمعظم لغات العالم، وتحوّلت شخصية الدون كيشوت إلى حالة رمزية، بل ومصطلح أطلق عليه ”الدونكيشوتية“ والذي يُشير عادة إلى الشخصيات الحالمة التي انفصلت عن الواقع وانشغلت بمعارك عبثية لا وجود لها إلا في خيالاتها السرابية وأفكارها المضطربة. إن شخصية الدون كيشوت التي كانت تُحارب طواحين الهواء وتتخيل بطولات وهمية، كُتبت منذ أكثر من أربعة قرون، إلا أنها تجسدت وتمظهرت في كل العصور، وهي تتواجد بكثافة ووضوح في عصرنا الحالي. الدون كيشوت بجواده الهزيل وسيفه الخشبي ومحارب طواحين الهواء، قد يكون أنا أو أنت أو هو، وكل تلك الملايين على امتداد العالم التي اعتلت صهوة خيالها وحملت سيف أوهامها منطلقة نحو معاركها المفتعلة لتُحارب تلك الجيوش المزعومة من طواحين الحياة.
لا يوجد أصعب من تبسيط أو تلخيص عمل روائي كبير وشهير في سطور معدودة، ولكنني سأجرؤ على ذلك لصنع مشهد بانورامي تتسلل من كادره المختصر حكاية الدون كيشوت محارب طواحين الهواء:
ألونسو كيخانو النحيف الطويل، رجل عجوز في الخمسين من عمره، يملك مزرعة ويملك من المال ما يكفيه ليعيش حياة هانئة، يعيش في إحدى القرى الإسبانية إبان القرن السادس عشر وفي بدايات عصر النهضة، ويعيش بمفرده حيث لم يتزوج، وقد اتخذ لنفسه اسم ”دون كيشوت“. ويقضي معظم أوقاته في قراءة كتب الفروسية والمغامرات، لدرجة أنه قد تماهى مع شخصيات أبطال تلك الكتب وأقنع نفسه بأنه مثلهم، بل أعظمهم، امتطى الدون كيشوت فرسا هزيلا يشبه البغل وامتشق سيفه الخشبي واختار له مرافقاً مخلصاً وهو سانشو الفلاح البسيط الذي يتبعه على ظهر حماره، صار يجوب القرى والبلدات بحثاً عن المغامرات ونجدة الضعفاء والقضاء على الأشرار، وكان يُلوّح بسيفه الخشبي في وجه طواحين الهواء الذين أعتبرهم اعداءه الذين يتربصون به ويكيدون له، كان الناس يشفقون عليه ويحاولون ثنيه عن أفكاره الغريبة وانتصاراته الواهية، إلا أنه كان يُصرّ على مواصلة معاركه الكبيرة، ولكن في نهاية المطاف يُصاب بحمى شديدة ويموت على سريره وليس على حصانه كما كان يتمنى.
يُقال إن روائع الأدب العالمي التي غيّرت مسار الأدب على مر العصور هي الأربع: ”الإلياذة“ لهوميروس، و”الكوميديا الإلهية“ لدانتي، و”فاوست“ لجوته، و”دون كيشوت“ لمغيل دي سرفانتس. وفي عام 2002، صُنفت قائمة أفضل الأعمال الأدبية على مر العصور، بتصويت شارك فيه أهم 100 كاتب من 54 دولة مختلفة، لتحتل رواية ”دون كيشوت“ المركز الأول في هذه القائمة باعتبارها أفضل عمل أدبي في التاريخ.