دعاية مجانية
عندما نتحدثُ عن عمليةِ تجميلٍ من نوعٍ آخر، لا يكونُ فيها الجسمُ والوجهُ حاضرين وبطلين في المشهد، بل يكونُ المكانُ الجامدُ هو العنصرُ الرئيسُ والمستهدفُ في هذه العملية، والذي تعملُ فيه أدواتُ التجميلِ غير الطبيةِ عملها، أمثال: كاميرا الهاتف المحمول وملحقاته، وأذواق الناس وخبراتهم؛ لتبرزه بصورةٍ رائعةٍ تسرُّ الناظرين إليه من خلالِ المقطعِ أو الصورة، والتي تم فيهما إجراءُ التغييراتِ التجميليةِ المطلوبة؛ ليصبحَ ذلك المكان في خانةِ الأماكنِ الفارهة، مع أنه لا يعدو كونه مكانًا عاديًا قليلَ النجوم، فيتفاجأ زواره الجدد عندما يكون وجهتهم ومقصدهم في يومٍ ما، ليكون الإحباطُ عنوانَ وجوههم، والصدمة وخيبة الأمل وما شاكلها من مفرداتِ تعبيراتهم، حيثُ إنَّ الصورةَ أو المقطع «الدعاية المجانية» كانت في أعلى مستوياتها، بينما الواقع في أدناه.
بدايةُ الانطلاقةِ عند دخولِ المكانِ المنشودِ، تكونُ بسلوكٍ جمعي، وذلك برفعِ الهواتفِ المحمولةِ بالأيدي، بعدها تأتي حفلةُ التصويرِ التي لا تتوقفُ لكل تفصيلةٍ صغيرةٍ وكبيرةٍ على مدارِ الجلسةِ وطول مدة البقاءِ في ذلك المكان، مع غفلةٍ شبه تامةٍ للمتعةِ البصريةِ والنفسيةِ المنشودة، يلي ذلك عملية الإضافاتِ التجميليةِ بإخراجٍ بات مكررًا ومألوفًا، والغرض من ذلك إضفاء مسحةٍ جماليةٍ خياليةٍ غير واقعية في معظمها لذلك المكان، ثم تُنشرُ تلك المشاهد والصور للخاصةِ والعامةِ عبرَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي المختلفة؛ كي يرونها ويعلقون عليها، وتكون تعليقاتهم في مجملها ذاتَ طابعٍ موحدٍ يطغى عليه العقلُ الجمعي ذو الرأي الواحد المتشابه، ثم لا تلبثُ أن تتكوّنَ كرةُ الرغبةِ لدى الآخرين لزيارةِ ذلك المكان، وتكبرُ شيئًا فشيئًا حتى تصلَ إلى حدِّ الانتفاخ، فلا يستطيعُ بعدها هؤلاء الناس الذين وصلتهم المادة الإعلانية إلا قصد ذلك المكان بغرضِ زيارته والاستمتاعِ بالجلوسِ فيه، ولربما ولادة عمليةِ دعايةٍ مجانيةٍ جديدةٍ له من خلالهم.
حملةٌ دعائيةٌ مجانيةٌ نقدمها - ربما دون أن نشعر - لأربابِ تلك الأماكن، فهم لا يبذلون لنا شيئًا ألبتة جراءَ ذلك، ونحنُ لا نجني شيئًا يُذكر من كل ذلك سوى التعبِ والنصب، وتضييع المتعةِ والاسترخاء، وفعل أمر ليس من اختصاصنا، بل إنَّ هنالك من يقومُ بهذا الدورِ باحترافيةٍ، مع حصوله على عائدٍ ماديٍّ مجزٍ من الملّاك.
علاماتُ استفهامٍ صغيرة وكبيرة تلوحُ في الأفق، ولا بد لنا من أن نسلط الضوء عليها ونضعها تحت المجهر، منها على سبيل المثال لا الحصر: لماذا نفعل ذلك السلوك؟ وهل أصبحنا مجبرين على هذا الفعل، أم أن ذلك أصبح جزءًا رئيسًا من سعادتنا؟ وكيف لنا أن نقومَ بعملٍ إضافي ونحن في حالةِ هربٍ من عملنا؟ لِمَ لا نأخذُ الجرعةَ كاملةً من الاستمتاعِ والراحةِ والهدوء دونَ أن نشغلَ أنفسنا بهكذا سلوك؟!
عندما تتدحرجُ هذه العلامات ومثيلاتها في عقولنا الواعية وقلوبنا المبصرة، تتشكَّلُ لدينا إشاراتٍ شاهقةٍ تمنعنا من العبور، وتتطلب منا إجابات صفتها الإقناع لذواتنا؛ حتى نتجاوزها، لنصلَ في نهايةِ المطافِ إلى قرارٍ حاسمٍ شعاره لائحٌ واضح وبصيغةٍ تبدأ بلامِ الأمر، مفاده:
«لِنوقف هذه الحملات الدعائية المجانية، ولنستمتع بالمكان استمتاعًا غير منقوص وبالدرجة الكاملة …»