مقاسات الخياط
أحكامنا على الناس تتسم بالثبات التاريخي في معظمها، ونظرتنا حيالهم تتصف بالتوقف الزماني، حيث إن التحديث ممنوعٌ عليهم وغير مستساغٍ في هذا الجانب، والمقاسات ثابتة وغير قابلة للتمدد والتقلص على حدٍّ سواء مهما تغيرت الأمور، وإنْ حفرت تجاعيد الزمان وقالت كلمتها على الوجوه والعقول، ولا ينفذ من تلك الأحكام، ويحصل على فرصة أخرى - قيمتها تعادل معدن الفرانسيوم - لإعادة فحص مقاساته إلا النزر اليسير من بني الإنسان.
تمر عقود من الزمن وتنقضي، وكل شيء يتغير، عدا ذلك الحُكْم فهو متماسك لا يهتز، وثابت لا يتبدل، مع أن مقاساته تضيق وتتسع مع مرور الوقت ونحن لا نشعر بذلك التقلب، وربما نشعر لكننا لا نريد إعادة التقييم؛ لسيطرة قناعاتنا القديمة السالفة ومقاساتنا العتيقة التي أصبحت كالقيود التي تمنعنا من تحرير عقولنا، وإطلاق الحرية لها وعتقها؛ كي تحدِّث تلك القناعات والمقاسات، فتتغير الأحكام تبعًا لذلك.
إنّ العديد من قناعاتنا وآرائنا - بطبيعة الحال وما يؤكده الواقع - يدخلها عنصر التغيير شئنا أم أبينا وبزاوية منفرجة تتحول إلى خط مستقيم في أقصاها، فتتبدل القناعات والآراء إلى حد الإلغاء، ليحل محلها قناعات أخرى جديدة، وآراء مختلفة، تجعل منا أناسًا آخرين بنسخٍ عقلية متطورة، تعيننا على أن نعيد القراءة والتقييم، وأن نأخذ مقاسات حديثة على الناس تتوافق مع التغيير الذي حدث فينا وفيهم.
هذا الشاهد الطبيعي في التغيير والتحول لا بد وأن يُهيئ لعقولنا قاعدة نؤسس عليها بنيانًا مَرِنًا أعمدته قناعاتنا المحدّثة، وسُقُفُه آراؤنا العصرية؛ فتظهر أحكامنا بحلة جديدة تتناسب مع التحول الذي حدث فينا وفي الآخرين أيضًا مع مرور الزمن، وتكون المنطقية والواقعية من سمات ذلك البناء، والمقاسات الجديدة مظلته وحديقته.
أظن بل أكاد أجزم بأن الخياط على حق وما يفعله هو عين الصواب، حينما يعيد أخذ المقاسات في كل مرة يأتي فيها إليه الناس ويقصدونه؛ لتفصيل الثياب الجديدة عنده، فهو يعرف أنّ الأحجام قد تغيرت واختلفت، ولا بد من الإعادة والتحديث؛ حتى تخرج الثياب في تناسب طردي مع الوضع الجديد، يقبله الزبائن قبولاً ملؤه الرضا والاستحسان.
يقول جورج برنارد شو: «الشخص الوحيد الذي أعرفه ويتصرف بعقل هو الخياط، فهو يأخذ مقاساتي من جديد في كل مرة يراني، أما الباقون فيستخدمون مقاييسهم القديمة، ويتوقعون مني أنْ أناسبها!».