شاعر ورادود.. ثنائية تعثرت
يمتاز المذهب الإمامي بالدعوة إلى اقتفاء أثر الأكمل منالطاقات بدأ من ساحة القداسة الدينية وهم أهل بيت النبوة والإمامة إلى أصغر الساحات الدنيوية. ومن نافل القول أنهينبغي تطبق هذه القاعدة في ساحة ”المدائح والمراثي“ الولائية بجانبيها النصي والصوتي المتمثل في شعر الشاعر أو الأديب وصوت المنشد أو الرادود خصوصاً إذا كان الخطاب موجه للشريحة الأوسع من العالم بكل أطيافه وألوانه.
هناك حالات مشهودة طبقت هذه القاعدة ب ”إعطاء الخبز لخبازه“، كما يقال، حيث خبز الشعر ”الشاعر المجيد“ فأخرجه على معاييره ومقاييسه وكذلك اللحن هندسه ”الرادود المبدع“ فأخرجه رائعاً كما هي روعة أصوات جنات الطبيعة بكل حالاته.
من تلك النماذج على ساحة الواقع هو نموذج راقي جداً لأحد الشعراء الأدباء المعاصرين الذي حاز على لقب ”عميد الشعر الحسيني المعاصر“ بتقييم شيخٍ ”محقق جليل القدر وذواقة للشعر عُرف باهتمامه بإعداد وطباعة أكبر موسوعة حسينية في التاريخ“ ألا وهي موسعة ”دائرة المعارف الحسينية“ وقد صرح صاحبها للمقربين منه أن ذلك الأديب هو ”الأشعر حسينياً في هذا العصر“. كما سطر ذلك الأديب أروع مثال لموضوعية الشاعر الولائي بجرأته وثقته بالنزول لساحة النقد طالباً فحول اللغة للمبارزة لنقد شعره قديماً وحديثاً، كيف لا وهو الذي استطاع أن يصل بمستوى قصائده من الشعر ”الفصيح“ إلى مصاف فحول الشعر والشعر ”الدارج“ إلى مستوى عرابيه. ليعطي بذلك نموذج للكفء الكريم لهذه الساحة الولائية السامية أدبياً وسلوكياً ولغوياً بالصورة التي ينبغي أن يكون عليها أدباء الطف والشعر الولائي في كل عصر بمصاف الرعيل الأول كدعبل والكميت والحميري والشريف الرضي وشعراء الحلة السيدين الحليين والكواز والجواهري في عينيته وغيرهم من الماضين عليهم الرضوان والرحمة، وكذا في الدارج «الشعر باللهجة العامية» في مصاف بن نصار والجمري وبن فايز وعبود غفلة والشيخ كاظم منظور وغيرهم وكعميد المنبر الحسيني الخطيب الكبير الشيخ الدكتور الوائلي رضوان الله عليه في كليهما.
في الجهة المقابلة هناك أيضاً نماذج ”للرادود الولائي“ متنافسة في السمو بأدائها وأخلاقهاالسامية التي استطاعت بها أن تستقطب إعجاب الدائرة العالمية فضلاً عن الإسلامية والشيعية وهي نتيجة لإخلاص راسخ وذوبان في خدمة الحسين وآل الحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وفيوضات إلهية حسينية. ومن الإلتفات والتفعيل السامي، أن هذا الثنائي «الأديب الألمعي والرادود المبدع» اجتمعا فأنتجا نتاجاً باهراً في أكثر من تجربة أو مسيرة مقدمين درساً عما ينبغي أن يرقى له مقدمي الخدمة الحسينية بها لتليق بالنزر اليسير مما قدمه الإمام العظيم وشهيد الأمة وشافعها الحسين بن علي بن أبي طالب أجمعين.
لكن العجب كل العجب هو الصمت وعدم تحريك ساكن من المعنين بالساحة الولائية للجمع بين ألمع الشعراء والرواديد أو لإصلاح الخلافات التي تعرقل تلاقح الجهود بين الأدباء والرواديد بسبب سوء فهم حدث لعدم اجتماعهم في مجلسٍ واحد لبحث الموضوع وإزالة العقبات، تاركين المجال للمساجلات الإعلامية بينهم على منصات التواصل الاجتماعي.
فهل يصح الزهد بالإصلاح بين الأدباء والرواديد اللامعين؟؟
نعم الساحة متخمة بالشعراء ولكن هذا لا يبرر التسليم بترك الجمع بين الطاقات الألمع والأرقى على الساحة شعرياً وانشادياً أو عزائياً وغيرها، لذلك لعله من واجب اللجان التي تُعنى بساحة ”المدح والرثاء“ الولائية من الحوزات أو مكاتب المراجع أو غيرها أن تسعى لحل مثل هذه القضايا التي تمس صورة المذهب الحق أمام العالم من خلال أكثر أدواته انتشاراً وإقبالاً بين الجمهور الخاص والعام. نعم لا يمكن التدخل في كل قضية ولكن هذه القضية مميزة ”للعطاء الأميز“ الذي يمكن انتاجه وخصوصاً أن الساحة الولائية تشهد انتكاسات وهفوات شعرية وأدبية لا تليق بالساحة الحسينية والولائية وتاريخها العريق الذي شهد المُآلف والمخالف بعلو كعب مستواه الأدبي وبراعته وقوته وتميزه ورصانته «ونموذج لتلك الشهادات ما ذكره الأديب الناقد الأزهري أبي قيس محمد رشيد على صفحته باليوتيوب «1». لذلك من الخطأ ترك هذه الساحة الأهم للجهود الفردية أو لقاصري النظر ممن يدّعون أنهم مدراء أعمال أو شعراء أو أدباء أو رواديد وغيرهم الناظرين لمصالحهم الآنية على حساب الساحة الحسينية الولائية ”وهم لا يشعرون“.
وهنا نقطة أخرى ستكون ثمرة لتلاقح الجهود بين الأدباء ”الألمع“ وكبار الرواديد ”الأبدع“، هي إمكانية توفُّر فلتر أدبي للقصائد التي ستقدم للرادود من خلال مشرحة ومقصلة الأديب الناقد البارع الذي يتسم بالموضوعية بحيث لا يتأثر بالمؤثرات في بخس أي شاعر حقه في الشهادة له بسمو نصه. لأن من المسلم به أن من يجب عليه تولي هذه المهمة في الدرجة الأولى هم أصحاب الاختصاص، سواء كانوا نقاداً أم أدباء أم شعراء بشرط الكفاءة. ومع تطبيق ذلك سيرتفع مستوى الشعر الولائي الذي عثر عثرات فادحة في السنوات الأخيرة، وهذا ما صرح به أكثر من أديب على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وللتشبيه هناك مقاطع جميلة لأحد كبار معلمي المقامات وهو يعلم ويدرب القراء الشباب على تلاوة القرآن الكريم وهي الصورة التي نتمنى أن تتمثل في الساحة الشعرية كما هي متمثلة في برامج المسابقات عن أفضل أداء للقصائد الحسينية بين الشباب بطبقاتهم العمرية المتفاوتة.
الخلاصة:
1. المذهب الحق له صورة ناصعة كونها وحصنها وحماها النبي الأعظم وعترته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعدهم المراجع والعلماء، قدس الله أسرار الماضين منهم ومد في ظل الموجودين، لذلك يجب أن تكون جميع الساحات التي تنسب إلى المذهب في أرقى المستويات وخصوصاً الإعلامية منها التي لها تماس مع الجمهور العام بتنوعه الواسع، فمكانتها وسموها فوق جميع الاعتبارات والمحسوبيات والمجاملات وما إلى ذلك مما يكون نتيجة لقصر النظر وفقدان الخبرة والبصيرة والوعي اللازم.
2. يجب تعزيز نقاط القوة للخدمة الولائية وعلاج سلبياتها بالصلح بين أطرافها المتخالفين وما إلى ذلك بالنقد الإيجابي وتقبله وتطبيقه.
3. الشعر الولائي ”مديحاً ورثاء“ ليس للشعراء المبتدئين بل لكبار الشعراء خصوصاً إذا كان مُحضَّراً ليذاع على الفضاء العام الأوسع.
4. الرادود غالباً لا يملك مهارة نقد النصوص الشعرية أدبياً ولغوياً لذلك لابد من ثنائية مع مختص في الأدب الشعري ليكون نتاج المنبر الحسيني والساحة الولائية كما كان في سابقه يقف له الأدباء الكبار من خارج المذهب وقفة إجلال وإكبار كما وقف الأديب المصري الشهير والكبير أحمد شوقي أمام لامية السيد حيدر الحلي رحمهما الله في القصة المعروفة والتي مطلعها:
عثر الدهر ويرجو أن يقالا * تربت كفك من راجٍ محالا «2»
5. رسالة للشعراء عموماً والشباب والمبتدئين خصوصاً، فليسمحوا لنا على هذا التجاسر حيث أننا لسنا من أهل الشعر والأدب وإنما نحن نعد نفسنا من أهلالتذوق للشعر ولعله لدينا بعض المحاولات الشعرية التي قد تعتبر جادة، نقول لكم أننا نستمع للنتاج الولائي منذ صغرنا قبل أكثر من عشرين سنة لذلك صارت ذائقة شعرية لدينا جميعاً نحن المستمعين لنتاج المنبر الحسيني العزائي والمدائح، فتكون بصيص مقدرة على التمييز بين النص القوي والهزيل لذلك نرى أنه ليس من الأدب التجاسر على القامات الشعرية لأنها انتقدت شعركم فالنقد لا يعني أن شعركم الولائي ضعيف بالعكس حيث الواقع كما يقول أحد الكتاب أنه ”لم يكتب ولم يقال في رجل على مر العصور مثلما كُتب وقيل في الحسين فصار يُرثى بكل لغة ولهجة ولا يمكن بحال من الأحوال حصر هذه المقولات والمكتوبات وجمعها مطلقا لغزارتها وكثرتها. ثم إن الشعر مجرد محاولة لتقريب صورة الحدث الى الأذهان وإلا من يستطيع أن يصف نحر طفل رضيع يستقبل سهما مثلثاً يذبحه من الوريد الى الوريد وهو في حضن أبيه، المكان الأكثر أمانا للطفل. كل الشعر فيه جيد ومتوسط وردئ إلا الشعر الحسيني فكله قوي وإن كان هناك من تفاضل فيقال هذا شعر قوي وذاك أقوى، والأقوى ما تناقلته الركبان وصار على كل لسان“ ومع ذلك هناك بعض الهفوات الفادحة التي أشار لبعضها العلامة السيد منير الخباز دام عطاؤه في محرم الحرام هذا العام في محاضرته بعنوان ”هل وجدت الغلو في اللطمية الحسينية؟“ «3». لذا يجب أن تعلموا إخواني أن الرادود صوت المذهب ”الرثائي والمدائحي“ ومع خطورة وأهمية هذا الدور ورسالته يجب عليكم أن تعرضوا قصائدكم على الأدباء قبل إرسالها للرادود، فمع احترامنا وإجلالنا للرواديد فإن تقييم القصائد أدبياً ليس دورهم، والسقطات في بعض القصائد مؤخراً دليل على ذلك. لذلك ليس من حق الرادود أن يلقي القصائد كيف ما اتفق لأنها أعجبته حيث أنه ستصل إلى العالم أجمع في أبعد الاحتمالات. لذلك عليكم وعليهم أن يجعلوا في نصب أعينهم أن ما وصلوا إليه هو بفضل الحسين فالحذر من أن تسيؤون للحسين من حيث أنكم تظنون تخدمونه، وإن لم تكن لكم الجرأة والثقة على فعل ذلك فاتركوا الساحة للأكفاء فالمنبر الحسيني ليس ساحة لتحقيق الذات ونشر الشعر الهزيل.
6. رسالة للرواديد, نحن تربينا على الاستماع إلى قصائدكم منذ صغرنا ومن حقكم الدفاع عن كرامتكم الشخصية ولكن ليس على حساب القضية الحسينية و المنبر و القصيدة الحسينية وليكن لكم في كريم أهل البيت عليهم السلام الإمام السبط المجتبى أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب الذي أعز الإسلام وحفظه بتضحيته بكرامته الشخصية حيث أن " كرامته من ذاته لا من الآخرين…، كرامته بفضائله، كرامته بمناقبه، كرامته بطاقاته، فكرامته ذاتية له" لذا " ألف اعتداء لا يغير من كرامته شيئًا، ألف اعتداء، ألف جرح لا يغير من كرامته شيئًا لأن كرامته لا تنفصم ولا تنهزم بجرح الآخرين واعتداء الآخرين لأنها كرامة ذاتية" وهذا هو "معنى سمو النفس.....، لأنه يرى كرامته أعلى وأسمى من أن تتأثر بجرح الآخرين أو اعتداء الآخرين، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ لأنهم يشعرون أن كرامتهم ذاتية لا تتأثر بالجرح ولا بالإيذاء ولا بالاعتداء، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ ارتقت ذواتهم بالفضائل والمناقب حتى أصبحت كرامتهم لا تتأثر باللغو والمهاترات" (4). فما يصلكم من نقد إيجابي يوجبه العقل والشرع في حق المؤمن ليس فيه تنقيص بسمعتكم اللامعة، فالملاحظات ترد على كل إنسان لأن العصمة لمحمد وآل محمد ومن اصطفى رب العالمين ممن شاء من الخلق. فإن كنتم تقدمون الحسين عليه السلام على نفسكم وهذا ما نظنه فيكم نرجوا أن تكونوا حلقة متكاملة مع الأدباء لاختيار النصوص الأقوى والأليق للتعبير عن مذهب أهل البيت عليهم السلام و لا يأخذكم الغرور بذائقتكم لأننا شهدنا هفوات فادحة باعتمادكم عليها دون الرجوع لـ "أهل الذكر" في هذا المجال ﴿…فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ﴾ [An-Naḥl: 43].
7. رسالة للأدباء، أنتم مدرسة أدبية ونحن مع نقدكم للساحة الشعرية قلباً وقالباً فأنتم أبناء بجدتها الخبراء، على ما يقال، فما نرجوه منكم هو أن تعطوا للرواديد احترامهم كما يليق بمكانتهم الاجتماعية المرموقة التي كونوها بجهدهم وإخلاصهم وجدارتهم لتساعدوا على تكوين أرض خصبة لتلاقح الجهود. فليس من الصحيح التعبير عنهم أني أنصحهم أو أرشدهم كما أرشد أبنائي ما يعطي صورة تعالي و تكبر لا تقصدونها.
8. للعاملين على حفظ تراث الرواديد وإدارة شؤونهم، اتقوا الله ولا تحجبوا صوت الحسين بدعوى حفظ الحقوق التي هي حقوق محمد وآل محمد بالدرجة الأولى ومانحن وأنتم إلا أدوات لإيصال صوتهم والفضل كل الفضل لهم، فلا يصيبنكم الغرور وحب الشهرة وكونوا دعاة لأهل البيت بأفعالكم الحسنة فعن الإمام الصّادق أنه قال: «مَعاشِرَ الشِّيعَةِ، كونوا لنا زَيناً ولا تكونوا علَينا شَيناً، قولوا لِلناسِ حُسناً، واحفَظُوا ألسِنَتَكُم، وكُفُّوها عنِ الفُضولِ وقَبيحِ القَولِ». فالله الله في هذه الشعائر المقدسة فالغاية التي جمعت هذه الطاقات غاية مقدسة وهي خدمة الحسين عليه السلام فاحذروا من أن تتعرضون للحسين عليه السلام بسوء.. وكفى.
9. رسالة إلى المعنيين بالساحة الشعرية الولائية، نرجواتفعيل دوركم بتكوين قناة تجمع بين الشعراء والأدباء الكبار والمجيدين الولائيين مع الرواديد لإيصال النص الأدبي السليم أدبياً ودينياً وثقافياً وخطابياً للرواديد ولا تتركوا الساحة للاجتهادات الفردية التي أنتجت سقطات.
نفحة قرآنية ﴿وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ وَسَتُرَدّونَ إِلى عالِمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ [At-Tawbah: 105]
نفحة روائية
ثروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إذا عمل أحد كم عملا فليتقنه".