ظاهرة النقد تبلور رؤية واضحة وإيجابية
النقد كظاهرة تعتبر سمة إيجابية، وليس كما يتوقعها البعض أنها ظاهرة سلبية تشل حركة أصحاب الهمم، ومعوقًا لحركة التطوير، إذ أنه يشار إلى أصحاب هذه السمة بالنبلاء والعقلاء والحكماء، والنقد يعد مظهرًا من مظاهر التقدم والتطور، بل يعتبر مكونًا أساسيًا في مجال العمل والتطوير والتنوير، بل لا يمكن الاستغناء عنه في كل أبعاد الحياة، فهي وظيفة ملازمة للإنسان وللحركة البشرية بشكل عام.
ولكي يكون الناقد ناقدا حقيقيا لابد أن يتحلى بالموضوعية والتعقل والحكمة، بحيث يكون الناقد إما من أهل الاختصاص في مجال نقده، أو من أهل الخبرة، أو كلتا السمتين التي تمكن الناقد أن يكون من المتأهلين لهذه المهمة الصعبة، لا أن يكون الناقد خارج عن هاتين الدائرتين المهمتين، وإلا تحول النقد إلى حالة من العبث والعبثية التي تخلق الفوضى والدمار، وتحول مفهوم النقد من حالة الإيجابية إلى الحالة السلبية والمذمومة اجتماعيًا، وتصنع منهجًا نقديًا يسبب ضياع الوقت والمصالح العامة والخاصة، فضلا عن المهالك والخسائر الإنسانية والمجتمعية جراء أطروحات وآراء فارغة المحتوى ليس لأصاحبها فيها باع لا من قريب ولا من بعيد.
لهذا من الصعوبة البالغة إيجاد الناقد الإيجابي الذي يقدم لك نقدًا خالصًا ونقيًا يعلو بك إلى الدرجات العليا في المعرفة والاستفادة، لا ناقدا ياخذك إلى المهالك ويؤدي بك إلى الدرك الأسفل من الانحطاط والدمار، لأن النقد الإيجابي ليس طبقًا من الثناء والمدح والتلميع والتزكية والقداسة والمخيلات الوردية التي تريح القلب والنفس، بحيث تصور الجهة التي تنتقدها وكأنها كيان لا مثيل له في الحياة، وكل ما ينتج منه هي تابوهات مقدسة من الآلهة المقدسة، فهذا النوع من النقد هو النوع السلبي بل هو عين الهلاك وينبغي الفرار منه ومن أصحابه مهما بلغ حجم قربهم الشخصي أو النفسي.
النقد العقلاني أو الناقد الإيجابي هو البعيد عن التأثيرات العاطفية، بل تراه في نقده أو طرحه يبدل جهدًا كبيرًا في التفكير والبحث والقراءة بعمق وبتمعن وتدبر مرة ومرتين وأكثر من ذلك لإيجاد أفضل الحلول، ولا ينبغي على الناقد التسرع في إصدار الحكم والقرار، لأن فيه تهور وخسائر كبرى قد لا تعوض أبدًا سواءً على الصعيد الروحي أو المادي، وهذا ما يحتم على الباحثين إيجاد الاستشارة والمشورة أن يجهدوا أنفسهم في البحث عن الأشخاص المناسبين التي تتوفر فيهم المؤهلات الواجبة في تقديم الاستشارة والمشورة النافعة.
كما أن الناقد الحقيقي هو من يتسم بالحيادية والبعد عن الشخصنة والعواطف السلبية وحب الذات، حيث تراه يوجه نقده حول الفكرة لا حول الأشخاص، بل حول تطوير الأشخاص لا حول تدميرهم، حول المصلحة العامة لا حول المصلحة الخاصة المتصفة بالأنانية والفارغة من المحتوى الإنساني والاجتماعي والوطني، إذ أن الناقد النزيه هو القادر على صناعة مجتمعًا فاعلًا يتحمل المسؤوليات بكل أشكالها، وهو من يعبد الطريق بفكره وأفكاره النيرة وينير بها الطريق في رؤية واضحة ومستقبل زاهر وواعد.
إذن النقد البناء هو البعيد عن الشخصنة وحب الذات، والمؤهل لذلك الأمر، والقادر على التغلب على هوى النفس ومغرياتها، والأهم من كل ذلك أن يكون لدى الناقد بعدا إنسانيا راقيا، وشخصية قوية واثقة من نفسها، وصادقة في قولها وأفعالها، وذات بعد فكري وخبروي واسع، لا أن يكون الناقد ذا شخصية هزلية تسيطر عليها الأهواء والعواطف والتعصبات الدينية والقبيلية والعرقية وما شابه ذلك.
النقد الإيجابي إن أردنا فهمه فهو حالة تكاملية تصحيحية لمسيرة الإنسان، يحتاجها كل البشر وعلى كل صعيد، إذ أن النقد عبارة عن عصارة فكرية من العصف الذهني والقراءات المتمعنة والمتنوعة والمجتهدة في البحث الدقيق الكاشفة للمعرفة، لا نقدًا سرديًا من الحروف والكلمات الفارغة وغير الموزونة والفارغة من المحتوى المغلفة بقناع الجهل.
كما أود الإشارة هنا إلى الناقد الحكيم الذي يعلم متى يتكلم ومتى يصمت، العارف بالتوقيت المناسب لتوجيه نقده، متى ولمن، لأنه وبكل بساطة يعلم أن فهم البشر ليس على وتيرة واحدة، أو على مستوى واحد من التعقل والثقافة والمعرفة والتقبل، بل لربما تجد من يحدث لنقدك فتنة عمياء تحرق بها الأخضر واليابس. لهذا ينبغي على الناقد الحكيم أن يقوم بدراسة كل أبعاد نقده، ويقلبها يمنة ويسرة، ويعمل كذلك على دراسة الجهة التي سوف يوجه نقده لها، حيث يضع أمام عينيه نسبة من مخاطر نقده، قد تنتج ردة فعل معاكسة لما يتوقعه، ومن عوامل متعددة لم يحسب لها حساب، منها سوء فهم نقده وما يترتب عليه من آثار مؤلمة وغير متوقعة. من هنا نجد بعض النقاد الحكماء من يبتعد عن ساحة تقديم الرأي أو المشورة أو الاستشارة، لتجنبهم لمثل هذه الآثار الاجتماعية العكسية، حيث يعتبرون الاستغناء عن تقديم نقدهم أو آرائهم، وإن كانت صحيحة مائة بالمئة، إلا أن حفظه لديهم غنيمة، وذلك لحفظ مكانتهم الاجتماعية.