الإمام زين العابدين وعلاج الفراغ الروحي
كما أن النفوس تعطش وتحتاج إلى الماء الزلال، وكما أن الأرض تصاب بالقحط والجذب وتحتاج إلى الغيث كي تخضر وتثمر، كذلك الإنسان والمجتمعات تعطش وتحتاج إلى من يروي ضماها... وهذا واقعنا اليوم إننا نعاني من جفاف ومن عطش شديد ليس للماء وإنما للمعنويات والروحيات... فطغيان المادة، والانشغال بأمور الحياة، والتطورات السريعة التي تمر بها مجتمعاتنا على جميع الأصعدة، جعلتنا نتبعد شيئاً فشيئاً عن المنبع الروحي، ذلك المنبع الذي كان في يوماً ما يرفرف على مجتمعاتنا ويرمي بظلاله على سلوكياتنا، فلا تجد القلق، ولا تجد حالات الاكتئاب، ولا تجد العزلة بين الأخ وأخيه، أو بين أفراد العائلة الواحدة.
نعم يعاني البعض منا من فراغ روحي يتجلى في عدم تفاعلنا مع العبادات كالصلاة، والدعاء وقراءة القرآن، حيث أصبحت هذه الأمور من العادات اليومية التي نمارسها دون روح، نمارسها بشكلها الخارجي دون التفاعل الوجداني...
ولذا نحن بحاجة إلى عودة قوية، ونهضة، وانتفاضة على ذاتنا، لكي نتخلص من هذا الفراغ الرحي، ونربح أقوى معركة نخوضها في هذا الحياة وهي معركة «النفس».. فعن أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمد الصادق أن النبي بعث سرية، فلما رجعوا قال: ”مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس“.
الإمام السجاد ... لوحة إيمانية
ونحن في مناسبة ذكرى شهادة الإمام زين العابدين علينا أن نقتبس من سيرته الشريفة هذا الدرس، فسيرته هي لوحة إيمانية نقية، وهي منهج متكامل في بناء الذات.
كان الإمام زين العابدين قمة في العبادة والخضوع والخشوع أمام الله عزّ وجلّ، حتى لقب بزين العابدين وسيد الساجدين.
وقد وقع حريق في بيت الإمام زين العابدين ، وكان ساجدا في صلاته، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله، يا ابن رسول الله، النار النار، فما رفع رأسه من سجود حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها، فقال: «نار الآخرة» «1»
هكذا هي حالة من يعيش مع الله ويذوب في حبه، فلا أحد يشغله عن مناجاته، ولقد اصطبغت حياته بالصبغة الإيمانية، ولهذا فحياته كانت بين الصيام والقيام.
منهج الإمام زين العابدين
لقد شخص الإمام زين العابدين المشكلة الرئيسية التي كانت تعاني منها الأمة في عصره فوجدها «الفراغ الروحي» فهي اساس المشاكل، ولذا كان لابد من وضع منهج يعالج هذه المشكلة، والذي تثمل في:
أولاً: الصحيفة السجادية منهج تربوي روحي
هي من ذخائر التراث الإسلامي، ومن مناجم المباحث البلاغيّة والأخلاقيّة والتربويّة والأدبيّة في الإسلام ونظراً لأهميّتها فقد سماها كبار رجال الفكر والعلم، بأخت القرآن وإنجيل أهل البيت وزبور آل محمّد «2».
لقد أشاع الإمام روحية الدعاء والمناجاة والاتصال بالله تعالى عبر هذه الأدعية، التي تحلق بروح الإنسان في فضاء الرحمة والمغفرة، وتأخذ بيده إلى ساحة القدس، وتنير عقله، وتخرجه من ظلمات المادة إلى نور الحياة الحقيقية.
ثانياً: بناء الإنسان... العابد.. الصالح.. الواعي
عمل الإمام على تربية جيل من العلماء الربانيين الذين ربوا بدورهم علماء وعبّاداً صالحين. وهكذا تماوجت تعاليم الإمام عبر النفوس الزكية في حلقات مترامية كالصخرة العظيمة تُلقى في بحر واسع.. كان الإمام يتبع منهجاً فريداً في زرع القيم الإلهية في أفئدة ثلة مختارة منهم.. حيث كان يشتري العبيد ويتعامل معهم بأفضل طريقة ثم يُعتقهم ويزوِّدهم بما يوفر لهم الحياة الكريمة، فيكون كل واحد منهم ركيزة إعلامية بين بني قومه.. «3»
نحو برامج عملية
نحن بحاجة إلى قراءة سيرة هؤلاء القادة الربانيين والاقتداء بهم، لنتعرف على برنامجهم اليومي ونسعى قدر الإمكان إلى ممارسة بعض المفردات العبادية، من خلال:
1/ البرمجة الذاتية: ليكن لكل فرد منا برنامجاً روحياً يحافظ عليه، كن على صلة وصداقة مع القرآن الكريم والدعاء، اقض بعضاً من الوقت في قراءة بعض الآيات «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» وبعض الأدعية اليومية... استجب للدعوة الإلهية: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ»... ليكن لك برنامج خاص مع الأدعية في كل ليلة لك وقفة مع أحد أدعية الصحيفة السجادية.
2/ احرص على حضور المساجد لأداء الصلاة جماعة، يقول تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ فحينما يحضر المسلمون المسجد ويصلون مع بعضهم البعض تتعزز الحالة الدينية في نفس كل واحد منهم وتتقوّى، فمن طبيعة الإنسان أنه عندما يرى كثرة من الناس تمارس عملاً معيناً يعطيه ذلك دافعاً للقيام بهذا العمل الذي يجد الآخرين يقبلون عليه.
3/ جالس العلماء الصالحين واحضر مجالسهم ففيها تجد الكلمة الطيبة، والذكر الجميل، وتزداد نوراً.. روي عن رسول الله : ”النظر إلى وجه العالم عبادة“. وفي حديث آخر يقول : ”هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرك بالآخرة“.
ابحث عن العالم الذي تقتبس منه نوراً يضيء قلبك، الذي يكون لحديثه أثره في قلبك، الذي يفجر الينبوع العذب البارد الريان في قلبك حين يعمره بذكر الله «عزَّ وجلّ»...
4/ إشاعة أجواء روحية في المنزل
نحن بحاجة ماسة إلى هذه الأجواء.. لنحرص على إضفاء لمسات روحانية تًضفي الكثير من أجواء البهجة والسكينة والوقار في المنزل...
دع صوت القرآن يزين أرجاء المنزل فقد ورد عن أمير المؤمنين : «البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويُذكر الله عز وجل فيه، تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يُذكر الله عز وجل فيه، تقل بركته وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين»
اجل من بيتك مصداقاً لقوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ» النور/36
أخيراً لنعد لأنفسنا... لننظر أي مسافة تبعدنا عن الله... لنقطع تلك المسافات وتلك الحالة الخالية من لذة الذكر... علينا أن ننتصر على أنفسنا بعقد العزم بصناعة برامج روحية والاستمرار عليها، والتمسك بها.