الأمثال الشعبية حافظة للتراث
- هل نقول: ”اللي ما له أول، ما له تالي“؟ أم نقول: ”إحنا عيال اليوم“؟
- هل نقول: ”الحب على بذره“؟ أم نقول: ”ربك خلق وفرق“؟
هنا أكتب عن كتاب؛ بل عن سلسلة كتب كتبها القدير المهندس عبد الله بن عبد المحسن الشايب، على مدى ثلاثة عقود من الزمن، لتكون قاموسًا للأمثال التي تتداول في الأحساء بين أهاليها في مختلف مواقفهم التي ترتبط ببيئتهم ومِهَنِهم، وتمتد منذ عصور قديمة، مستمدة مصادرها من النخلة في تلك الواحة حينًا، ومن الرمل في الصحراء حينًا آخر، ومن ماء البحر في بعض الأحيان، ومن البشت رمزًا، ومن الأساطير والأرياف والقيم والمدح والذم، وقبل كل ذلك من علاقتهم بالله ودينه، ومن حالة تعايش الأحسائيين وتسامحهم مع التعددية للمدارس التعبدية.
لم أكن أظن أنني إن فتحت مجلدًا من هذه المجلدات «قاموس الأمثال والكلمات السائرة في الأحساء» لأتصفحه فسوف أعلق فيه وأتصفحه صفحة تلو أخرى، ومثلًا يتلو آخر، بل ومجلدًا يتلو الآخر. ولم أظن أنني سوف أرى يومًا ما ابني فارسًا «ذا الاثني عشر عامًا» يمسك كتاباً في هذا العمر ويقرأ علينا من الأمثال، ويستمتع بتعليقاتنا على كل مثل ويسأل عن معناه.
يقع القاموس في ثمانية مجلدات حول الأمثال والكلمات السائرة في الأحساء، خصص الأول منها لـ ”قراءة في دلالات الأمثال الأحسائية“؛ في حين ضمت المجلدات من الثاني إلى الثامن الأمثال مرتبة ترتيبًا أبجديًّا مع شروحاتها وكثير من دلالاتها.
يعكس هذا القاموس مدى أهمية الأمثال في نسيج أي مجتمع تحدث فيه الشايب عن المثل ومنشئه وارتباطه بجميع عناصر البيئة والمهن والكائنات في الشعوب كافة. فوراء كل مثل قصة، ولكل قصة ارتباطاتها في حياة كل فرد من أي أرض، وهنا في الأحساء أنموذج؛ حيث تعكس الأمثال الوجه الحقيقي أو الأوجه كلها لحياة الشعب وتفاصيل معيشة فئاته التي تكوّنه.
وحين تسمع المثل فأنت تفكك في عقلك شيفرةً تواطأ المجتمع واتفق على دلالاتها ضمنيًّا، واختصر بكلمات قليلة شرحًا أو استنكاراً قد يطول، ضامًّا في طياته أنماط السلوك ومستويات الأخلاق بوصفها موروثًا وفولكلورًا شعبيًّا وثقافة غير مادية. وما ذلك إلا وجه من أوجه البلاغة وتطور الرموز والدلالات في المجتمعات.
هذه المجلدات الثمانية لا تزخر بالأمثال فحسب بل وتزخر بمعانيها ودلالات الكلمات والمصطلحات، وشرح لمقتضى المثل، بل وحينًا يحمل نظرة الكاتب الشخصية عن غايته، وربطه ببعض الآيات والأحاديث والقصص وأبيات غاية في البلاغة من الشعر، وهو ما ينقل متعة قراءة تلك المجلدات إلى مستوًى أعمق.
من خلال التجول بين هذه المجلدات يمكن للقارئ أن يعرف الكثير عن لهجات واحة الأحساء، فقد فصّل الشايب في لهجات المناطق والقرى باختلافاتها ضمن قواعد واضحة بدقة عجيبة لامتناهية، وبيّنها في شرح دقيق لكل من لا يعرف اللهجة تلك، بل وحتى لمن يعرفها، مضمنًا إياها بعض الفروقات والمصطلحات «كالكشكشة والشنشنة»، وهو ما يستصعب في العادة لكثرة وتنوع الاختلافات، وكثرة الشذوذ عن تلك القواعد، مع اختلاط أهالي المناطق بعضهم ببعض وتزاوجهم، وتأثر لهجاتهم وتماهيها تبعًا لذلك بعضها في بعض.
ومما استوقفني في المجلدات قدرة الأحسائيين اللغوية العظيمة، ومخزونهم اللامتناهي من المفردات، والإلمام بتبايناتها؛ وهو ما وضحه المهندس الشايب حين قال: ”مع أن الأحساء في موقع جغرافي برزخي بين شعوب وقوميات كثيرة، فقد أثّر وتأثر ضمن تلاقح الحضارات، إلا أن محافظتهم على تواتر اللغة العربية وصمودها محل تقدير، من هنا نرى أن الأمثال في الأحساء تحمل ما حفظته من لغة عربية محكية لها جذريتها“.
قاموس يدغدغ مشاعر كل أحسائي، بل وكل من عاش في الأحساء شيئًا من عمره وعاشر أهلها. وأتفق بشدة مع الكاتب بأنه لا بد أن تكون الأمثال محل دراسة واهتمام للدارسين المعنيين بالثقافة الشعبية، وأرى أن تلك الحاجة تزداد بالأخص لحفظها للجيل الأحسائي القادم الذي نشأ مغتربًا لسائر أسباب الرزق والعلم، وما ذلك إلا ترسيخ لـ ”مفاهيم الالتصاق بالأرض وتكوين هويةٍ ما“، على حد تعبير الكاتب.
وقد لفت نظري أيضًا حضور البشت الحساوي في مشهد الأمثال ورمزيته في الهوية الوطنية للمملكة ومكانته كهدية ملكية فاخرة، فكان له - كما يصف الشايب - بالغ القيمة والأثر في اللغة المحكية بسرديات على شكل أمثال.
مجموعة جديرة بالاقتناء، وتحفة لا بد أن تزيّن مكتبات الأحسائيين خاصة، والمجتمعات الأخرى عامة.
وأختم بعبارة للمهندس الشايب: ”كلما تنوعت البيئة زاد ثراء استخدام المثل، والمثل بتواتره أيضًا يدل على حالة الولاء للأرض والوفاء لها، إن شيوع المثل هو أيضًا رمزية لمشترك ثقافي بين أفراد المجتمع“.
ممم لتلهل لاتل