إنسان وإنسان آخر
رسم الفنان الإسباني سلفادور دالي لوحة سيريالية لإنسان يختبئ هناك بعيدًا عن أعين الناس؛ ليفتح أدراجه الداخلية المرسومة على جسده، ويبدأ بالاطلاع عليها خلسة والبحث فيها وفي تفاصيلها التي لا يعرفها إلا هو؛ ليشاهد أسراره الخفية لوحده دون الآخرين.
لوحة بتفاصيلها وخطوطها ومضامينها هي لوحة معبرة تؤكد بأن داخل كل إنسان إنسان آخر يختلف اختلافًا واضحًا عن الإنسان الظاهري الذي نراه، وأن نظرتنا ما هي إلا للسطح فقط في ذلك الإنسان الذي نتعامل معه من الخارج دون اللب، حيث الحقيقة الكاملة والكامنة هي في ذلك الفضاء العميق من المشاعر والمواقف والنجاحات والقناعات والإحباطات والأمل والألم، فضاء له خصوصيته وغموضه وسريته.
أظن بأن كل واحد فينا فيه ذلك الإنسان الآخر المختبئ بداخله، إنسان مليء بالأسرار والصفات والأحلام والقناعات والرؤى غير المرئية لنا والمحجوبة عنا قصدًا وتعمدًا؛ حتى يبقى ذلك الآخر في صندوق محكم الإغلاق وبأرقام سرية معقدة من الصعب فكها أو التنبؤ بها.
كل منا يحب أن يكون له ذلك الفضاء الرحب من عالمه الخاص، وتلك المساحة من الحرية الداخلية والتي تتمثل في تكوين إنسان آخر يعيش فينا، إنسان له أفكاره غير المعلنة وقناعاته التي لا يصرح فيها، ولكنه يتبناها ويعتقد بها وربما تظهر عَرَضًا في إنسانه الخارجي إن مورست عليه الضغوط وأجبرته المواقف وأرغمته الحوادث؛ حينها نراه إنسانًا آخر غير الذي نعرفه، إنسانًا بصفات مختلفة متغيرة.
إن محاولة الدخول في عالم الإنسان الآخر محاولة فيها الكثير من الجرأة والفضول والمغامرة وتجاوز الخطوط الحمراء؛ حيث إنها تؤدي إلى تحجيم العلاقات وصولاً إلى تدميرها بالكلية، وإن الولوج في ذلك الكائن محفوف بالمخاطر، مليء بالأشواك، متلاف للتفاهم، هدّام للتقارب، طاحن لأي حوار جميل، مخرب لأي حديث مؤنس؛ لذا فإنّه من باب الحِكمة والعقلانية والاتزان تجنب الوصول إلى تلك المنطقة، مع رسم حدود تعطي الطمأنينة للآخرين بعدم تخطي إنسانهم الأول إلى إنسانهم الآخر.
هناك البعض من الناس من يرتضون ذلك التخطي، ويفتحون المجال والحدود للآخرين للدخول إلى عالمهم الخاص، إن أمثال هؤلاء لا بد من التعامل معهم بحذر وأن يكون حوارنا معهم فيه الكثير من التحفظ والتريث وانتقاء الألفاظ؛ حتى لا نجد أنفسنا في مواقف محرجة مع أولئك؛ حيث يتم اتهامنا بالفضول والتدخل في خصوصياتهم، وتكون من تبعات ذلك الاتهام تصنيفنا في خانة المخطئين وبالتالي نضطر إلى الاعتذار عن أمر لم نتدخل فيه بل تم إقحامنا فيه دون قصد منّا، فنكون بذلك قد وقعنا في الفخ، وعرّضنا أنفسنا إلى انتقادات لاذعة لم نكن لنستحقها لو أننا جنبنا أنفسنا مغبة السقوط في تلك المنطقة المحضورة.
علامة استفهام نضعها على طاولة النقاش:
طالما أن الإنسان الآخر في ذلك الإنسان الذي نتعامل معه لم يؤذينا، فلِمَ لا نتركه وشأنه؟!