ندم متأخر
في إحدى لحظات الحياة، تلك التي تجمع بين الحاضر والماضي، كنت جالسًا في غرفة الانتظار، الجو مشحون بالصمت، تتخلله همسات خافتة بين الحين والآخر. فجأة، دخل رجل مسن، خطواته بطيئة، يتكئ على عامل يعينه على المشي. لم أستطع إلا أن أتأمل ملامحه. كانت هناك هالة من الزمن تكتنف وجهه، وكأنني أعرفه.
دققت النظر أكثر، ومع كل لحظة، كانت الصورة تتضح في ذهني حتى انجلت الحقيقة: هذا هو أبو خالد، مديري السابق حين كنت أعمل في تلك الإدارة.
تقدمت نحوه بخطوات مفعمة بالمشاعر المختلطة. وقفت أمامه، ابتسمت ابتسامة خفيفة وسلّمت عليه قائلًا:
”كيف حالك، أبا خالد؟“
رفع نظره إليّ ببطء، عيناه تحملان ثقل السنين. لم يستطع الكلام. بدا واضحًا أنه قد أُصيب بجلطة أفقدته القدرة على التعبير. قلت له، بنبرة ملؤها العطف:
”عافاك الله، أنا جاسم. كنت أحد موظفيك في الإدارة.“
تغيرت تعابير وجهه قليلًا، وكأن شيئًا في داخله، تذكرني، دمعت عيناه بصمتٍ مؤلم وكانت نظراته تقول أكثر مما يستطيع لسانه التعبير عنه. حاولت تهدئته:
”عافاك الله، هل تحتاج مساعدة؟“
لكن دموعه انسابت على وجنتيه دون توقف. شعرت بثقل اللحظة، قلت له برجاء:
”أرجوك لا تبكِ... فما فات قد فات.“
صافحته برفق وعدت إلى مكاني.
لكن الذكريات بدأت تعود إلى ذهني، ذكريات ذلك اليوم الذي استدعاني فيه أبو خالد إلى مكتبه. كان جالسًا خلف مكتبه، وجهه جامد، وصوته حاد وهو يقول:
”جاسم، قررت إدارة الشركة نقلك إلى الفرع الآخر. عليك أن تباشر عملك غدًا.“
كان الأمر صادمًا. حاولت استيعاب الموقف وقلت له متوسلًا:
”لكن، يا أبا خالد، لقد عملت معك طويلاً، وتعرف قدراتي. لماذا تتخلى عني هكذا؟“
رد ببرود:
”هذا القرار مؤقت، ولا تجادل. إن لم تذهب، سيكون نقلك نهائيًا ولن تعود أبدًا.“
حاولت الاستفسار: ”ولكن، لماذا؟ هل بهذه السهولة يتم نقلي دون سبب؟“
لكنه أشاح بوجهه عني، وكأن الأمر لا يعنيه. خرجت من مكتبه وقتها والدموع تخنقني. شعرت بالظلم، وأدركت أن هذا القرار كان موجهًا لشخص آخر، لكن الأوراق عُدلت وأصبحت أنا الضحية.
واليوم، وأنا أرى أبا خالد في هذه الحال، شعرت بشفقة عميقة عليه. لم أكن غاضبًا، بل تملكني إحساس بالحزن. قلت لنفسي:
”وتلك الأيام نداولها بين الناس. لماذا نظلم الآخرين ونتعدى على حقوقهم؟“
كانت عيناه تحكي قصة ندم، وكأنها تقول لي:
”سامحني... لقد ظلمتك.“
تذكر
ما تفعله اليوم قد يعود إليك في المستقبل، سواء أكان خيرًا أو شرًا، لذا احرص على ترك أثر طيب.