الحكومات الفاشلة
العالم العربي يمر بأزمة خطيرة، وهي أزمة الاستثمار في الإنسان، ففي عام 1980 نظمت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا «الاسكوا» مؤتمر دولي في بيروت بعنوان " هجرة الكفاءات من البلدان العربية " وقد تم إعطاء توصيات ومعالجات لحل هذا المرض العضال الذي ينخر في الجسد العربي، والآن بعد مرور ثلاثين عاماً لم يتغير شيء، بل أعداد المهاجرين العرب في ازدياد، إذ يقدر عدد الأفراد من أصحاب الشهادات العليا في دول منظمة التعاون الاقتصادي للتنمية حوالي مليون شخص وهذا ناظر فقط لمكان الولادة، فحتما هؤلاء المليون قد أنجبوا الملايين الذين استقادت منهم الدول المتقدمة خصوصا أن المعطيات تشير إلى أن أبناء المهاجرين يحصلون على درجات عالية في الدراسة ومن الناجحين في أعمالهم وبعضهم يتبؤأ مناصب عالية.
هكذا وصل بنا الحال، حكوماتنا العربية تستورد العقول بقيمة باهظة وتخسر في كل عام ملايين الدولارت نتيجة هجرة النخبة، فالدول العربية تنفق على الفرد من خلال تعليمه في المراحل الدراسية «الإبتدائية، المتوسطة، الثانوية» ومن ثم توفر له مقعد في الجامعة، وبعض الدول تحفز الطلاب الجامعيين بإعطائهم مكافات مالية خلال الدراسة الجامعية، والآن نرى الحكومات العربية تنفق المليارات لكي تبتعث الطلاب للدراسة، ويقدر عدد الطلاب بأكثر من نصف مليون طالب يدرسون في مختلف الجامعات الغربية، لكن ماذا ينتظر هؤلاء إذا رجعوا وهل يستطيعوا التأقلم مع سياسيات التنمية في الأوطان العربية؟ في المقابل الغرب يستقبل عقولنا بكل ترحاب ويستثمرها بكل ما أوتي من قوة.
إحدى العوامل التي سبب ذلك هو الاستقرار السياسي المضطرب الذي أبعد المواطن عن المشاركة في الشأن السياسي والاقتصادي، وجعلته بعيدا عن قضايا وطنه المصيرية، فأدى ذلك إلى تكوين حكومات أسسها ضعيفة، وهذا ما اشار إليه المفكر محمد محفوظ بقوله " نجد أن الدول المتقدمة عسكريا وأمنيا والمتخلفة سياسيا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم." وهذا يتقاطع مع مايراه الباحث ويليم غليزر ««William Glaser الذي وجد أن" العوامل الدافعة للهجرة حصلت في البلدان النامية لأنها لم تقم ببعض الاصلاحات "، ويأتي في مقدمة هذه الاصلاحات، الاصلاح السياسي الذي يتفرع منه الاصلاحات في المجالات المختلفة، خصوصا أن الفرد الكفؤ يبحث عن تأثير اجتماعي أكبر كما يرى الباحث بهاغواتي ««Bhagwati، وهذا يبرر الهجرات المتزايدة عندما يجد المواطن العربي نفسه فاقدا للتأثير بل مقصياً، بينما إذا عاش في بلد غربي يمكنه أن يكون مشاركاً في صنع السياسات خلال فترة قصيرة، بل يمكنه أن يكون لاعبا ضمن الملعب السياسي والثقافي في أجواء تشجع على المشاركة في الشأن العام وفي مناخ محفز على الإبداع والحرية.
و هذا يدعونا إلى إعادة النظر في العلاقة التي تنظم أضلاع التنمية في دولنا العربية «الحكومة، المجتمع، الفرد» ومحاولة الانتقال بها إلى علاقة سليمة وصحية تقوم على العقد الاجتماعي بين المكونات المختلفة، والابتعاد عن العلاقات التي تقوم على القبيلة أو العشيرة أو العائلة أو الشرف أو المكانة، بحيث تصبح الكفاءة هي المعيار الأساس إن أردنا أن ننتقل إلى مفهوم الدولة الحديثة، وهو ما شدد عليه أحد المفكرين بقوله " أن الانسان الحديث يبحث عن دولة الرفاه التي هي نتيجة عمليات يصنعها المجتمع وهو يسيطر عليها بوصفها حقاً من حقوقه وليست منحة تسدى إليه ".