التوثيق الاجتماعي في عصر الرقمنة
يتزايد مؤخرًا القلق بين بعض المؤرخين والنخبة المثقفة من تعاظم الاعتماد على الوسائط الرقمية في توثيق الأحداث الراهنة، خاصة الاجتماعية منها. ومنشأ هذا القلق من توجه معظم الناس إلى الكتابة على هذه الوسائط التي تتوفر على قدرات هائلة جدًّا على التخزين والاسترجاع، مع سهولة كبيرة في التوثيق والتعديل لا تتوفر في الورق. كما أن هذه الوسائط وفرت مساحات أكبر بكثير من تلك المستخدمة في تخزين الكتب.
فكما نعلم أن التوثيق الورقي ضرورة لاستمرارية التراث الإنساني وحماية الذاكرة الاجتماعية؛ لكونه يتمتع بطابع مادي ملموس، وما يعنيه ذلك من متانة واستمرارية ومصداقية؛ فهو الحاضن الأساس لهذا التراث بجميع مفرداته. وهو بذلك أقل تأثرًا بما يحيط به من مؤثرات تقنية ليس أقلها الفيروسات والهجمات السيبرانية التي قد تدمر جميع البيانات في ثوانٍ معدودات. كما أن الوسائط الرقمية تتغير وتتبدل بسرعة كبيرة حتى يتعسر أو قد يستحيل الاستفادة منها بعد سنوات قليلة من ظهورها، وهو ما يسمى «التقادم التكنولوجي». فالأقراص المرنة «Floppy disks» مثلًا أصبحت من الماضي، ولا نستطيع تشغيلها الآن إلا بواسطة أجهزة وسيطة نادرة، هذا إن لم يصب هذه الأقراص العطب بتأثير الزمن، في حين أن هناك من الوثائق الورقية ومن أوراق البردي بعمر مئات أو آلاف السنين ما هو موجود إلى يومنا هذا وقابل للقراءة. وقد بدأ هذا التقادم التكنولوجي يشمل أيضًا الأقراص الضوئية «CD»، وقد يحصل لما بعدها من وسائط، علاوة على ارتباط هذه الوسائط بالكهرباء والطاقة، واعتمادها على أجهزة لتشغيلها، في حين أننا نستطيع قراءة أي كتاب ورقي حتى في أصعب الظروف دون الحاجة لمصدر طاقة أو أي جهاز.
حتى الاعتماد على الإنترنت لتخزين التاريخ الاجتماعي على خوادم خاصة «Servers» أو باستخدام ما يسمى «التخزين السحابي» لا يخلو من مخاطر الفقدان أو صعوبة الوصول إليه، أو حتى استحالة تشغيله مستقبلًا؛ لكون بعض الأنظمة أو البرامج إما إنها تصبح غير مواكبة للتطورات التكنولوجية المتسارعة أو أن الشركات المنتجة لها تُوقِف دعمها تقنيًّا وهو ما يحصل باستمرار. وجميعنا لاحظ اختفاء آلاف الأخبار والوثائق والمستندات والصور المحفوظة بمختلف الوسائط الرقمية لسبب أو لآخر؛ منها انتهاء صلاحية نطاق موقع «Domain name» ما مثلًا، أو لعدم دفع رسوم استضافته في أحد الخوادم.
كل هذه المخاطر التي تكتنف الاعتماد على التقنية الرقمية في توثيق تاريخنا تصبح أقل بكثير جدًّا حين استخدام الورق للتوثيق، علاوة على الجوانب الحسية التي تحيط بنا عند استخدام الأوراق. ولنا أن نتخيل مشاعر أحدنا حين يشاهد أو يلمس كتابات بخط يد أحد كبار الأدباء والمفكرين قبل عشرات أو مئات السنين، وهو ما يكاد ينقرض اليوم مع زيادة الاعتماد على أجهزة الحاسب والكتابة الرقمية، وربما وصلنا قريبًا إلى يوم لا نجد فيه مخطوطة يدوية لكاتب لطالما لامس مشاعرنا وألهب أحاسيسنا سنوات طوالًا. كما أن الوثائق الورقية أكثر صعوبة في تزويرها من الرقمية.
ليست دعوة لترك التوثيق الرقمي أو نبذه، بل لإيجاد حالة من التكامل بينه وبين الورقي بحيث يمكن الاستفادة من إيجابيات كل منهما.