مجتمعاتنا.. وصناعة الأعداء الوهميين
في رائعته العالمية «دون كيشوت» التي أضحت من التراث الأدبي العالمي استطاع الروائي الإسباني «ميغيل دي سرفانتس سافيدرا» أن يجسد بمهارة استثنائية كيف يمكن لانسان أن يخلق لنفسه أعداء وهميين وخرافيين، فيسخّر تبعا لذلك كل جهده وحياته للصراع معهم بكل ايمان، ثم لا يكسب في نهاية المطاف شيئا، بل يخسر أشياء كثيرة ليس أقلها خسارة أيام عمره التي بددها هدرا فيما لا طائل من ورائه.
«دون كيشوت» بطل الرواية هذا الهزيل البنية الذي ناهز الخمسين بلغ به الهوس لفرط قراءاته في كتب الفروسية حدا دفعه لأن يتصور نفسه فارسا يضرب في الارض في سبيل نشر العدل ونصرة الضعفاء، لكن أول معارك هذا الفارس المغفل كانت ضد طواحين الهواء متوهما أنها شياطين ذات اذرع هائلة، ظانا انها مصدر الشر في الدنيا، ثم تجيء بعد ذلك معركته الثانية حين يبصر غبار قطيع من الماشية يملأ الجو فيخيل اليه أنه زحف جيش جرار فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي اتاحها له القدر ليثبت فيها شجاعته ويخلد اسمه، فما انجلت الغبرة إلا عن مقتله وسط الاغنام وسقوط «دون كيشوت» نفسه تحت وابل من احجار الرعاة ليفقد فيها بعض أسنانه.
تلك ومهما بلغت روعتها فهي تبقى مجرد رواية خيالية، ولكن، هل يمكن أن يكون من بيننا «دون كيشوتيون»؟ هل يمكن لسوي عاقل أن يصنع لنفسه أعداء وهميين على غرار قريش حين كانت تصنع أصنام آلهتها بأيديها، فيصنع هو ذاته أعداءه ثم يصرف أيام عمره في محاربتهم؟
للأسف، واقع الحال يقول بذلك، إذ ان هناك من الأقربين والأبعدين، كثيرين ممن ابتلوا بهذا المرض العضال، فهناك في عصرنا الحديث على الأقل من اعتقد بأن تحرير القدس الشريف يمر على جثث الكويتيين!، وهناك من لا يزال يروج بحماس منقطع النظير بأن مجد الأمة الاسلامية لن يعود إلا بعد فناء ملايين المسلمين الشيعة!!، والمنطق القرآني يختصر هذه الحالة حين يصف بعض الناس بأنهم من ﴿ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾. المحير في الأمر والمثير في آن، حين يعمد أصحاب ملة واحدة، ومجتمع واحد ومبادئ سامية واحدة لاختلاق الاعداء الوهميين في اوساطهم هم، فيغفلون بذلك عن أعدائهم وخصومهم الحقيقيين، فبقدر ما يتاح لطاغية او فئة متعصبة أن تشغل أبناء الأمة ببعضهم البعض، يعمد أي صاحب فكر متخلف تدفعه خلافاته العبثية وعقده النفسية وثاراته الفئوية لأن يشغل أبناء ملته بعداوات وهمية مع أقرب المقربين من أبناء مجتمعاتهم، فيستخدمون اقصى الاسلحة قذارة ووضاعة تجاه اخوانهم، ويزجون بمجتمعهم في معارك داخلية الرابح فيها مهزوم!. ولكل حرب وقودها، ووقود النزاعات الدينية الغيرة المزيفة على الدين، وفي هذا كلام طويل نسكت عنه الآن!
ولكن ما هو سبب الحماس المتزايد لدى البعض تجاه خصومهم الوهميين والمتخيلين من أبناء جلدتهم، في مقابل سكوتهم شبه التام عن أعدائهم الحقيقيين الذين يفترض أن توجه السهام نحوهم؟ اذ ان بعض هؤلاء يصدق فيهم القول «سكت دهرا ونطق كفرا».
للاجابة عن هذا التساؤل، يبدو لي أن أفضل من أبدع في توصيف هذه الحال الدكتور مصطفى حجازي في كتابه «سيكلوجية الإنسان المقهور» حين وصف الملامح النفسية للإنسان المقهور، واستعرض الأساليب الدفاعية التي يجابه بها هذا المقهور وضعيته، فضمن خصائص النفسية المتخلفة اجتماعيا يشرح حجازي كيف يكره الإنسان المقهور نفسه فيقوم بتوجيه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله من المقهورين، عوضا عن توجيه هذه العدوانية تجاه خصمه الفعلي وهو المستبد.
ويضيف إن لب هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا، وبذلك يتخلص الانسان المقهور من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر، ويواصل بأن من الملامح لدى المقهورين هي ابتلاؤهم بعقدة النقص وفقدان الثقة بانفسهم وبأمثالهم وذلك ما يجعلهم يحجمون عن كل جديد، ويتجنبون كل تجربة قد تساهم قي تغيير وضعهم؛ لذلك، والكلام لا يزال لحجازي، لا يحرك هؤلاء ساكنًا، وإنما ينتظرون ذلك البطل المخلّص الذي سينتشلهم مما هم فيه!.
جماع القول، ان أمة من الأمم لن يكتب لها النجاح في نضالها والتخلص من الظلم المفروض عليها ما دام في صفوفها من هو غارق في اصطناع الأعداء الوهميين من أبناء جلدته والنفخ فيهم وتضخيم خطرهم!، في مقابل التخاذل التام أمام الخصوم الحقيقيين والانهزامية أمام التحديات الكبرى التي تواجه الأمة.