التكافل الاجتماعي بتبادل الخبرات


يقول هادي الأمة محمد ﴿خير الناس أنفعهم للناس، إن هذا الحديث المتكون من أربع كلماتٍ فقط، يحوي بين جنبات حروفه تأكيداً واضحاً،  ومنهجاً قيّماً لو أخذنا به لكفل لنا الخيرَ العميم في الدنيا والآخرة، إذ بتأمله نراه يمثل جلّ المعنى في قليل الكلم. وأحب أن أسلط الضوء هنا على وجهٍ هامٍ من وجوه تفعيل العمل التطوعي، ألا وهو التكافل الاجتماعي بتبادل الخبرات والقدرات، والذي أجده أحد السبل الكفيلة التي تضمن قيام مجتمع على أسس إسلامية حقّة، ضمن أطر المودة والتآخي والتعاون والوحدة والسلام، فخدمة الآخرين هي الفضيلة التي تميز بها عظماء الأرض في كل زمان ومكان، وفي نهاية المقال أشير إلى تجارب محلية ناجحة في هذا الجانب.

 وآلية التكافل الاجتماعي بتبادل الخبرات أن ينبريَ كلُ فرد من أفراد المجتمع من ذوي المهارات والخبرات والكفاءات بمجالاتهم المختلفة، وكلٌ حسب تميزه، إلى تبني مجموعة أو فئة ممن حوله في مجتمعه للأخذ بيدهم، ِوالوقوف إلى جانبهم، مادياً أو معنوياً _ أو كلاهما معاً حسب الاستطاعة_،  وإن كنت أخص هنا الدعم المعنوي تحديداً، إذ لعله يحظى بأكثر القبول في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة والتي تثقل كاهل الكثيرين، والمعنى المراد هو  إيصال المعرفة والخبرة التي لديه لتلك المجموعة، إذ أن من المهم أن نحدد الإمكانات الحقيقية للعطاء بين الأفراد، ثم نعمل على تفعيلها بأجمل صورها، وبأساليب قوية بعيدة عن التقليدية المستهلكة، بل وتتميز بالإبداع والتجديد، وهناك مجالات عدة تحظى بالأولوية في نقل الخبرات مثل التجارة والصناعة والحاسب الآلي، والفنون على تنوعها من رسم وخط وتصوير وتمثيل و..

، أيضاً في الطب والهندسة واللغات، وإلى آخر المجالات الحياتية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو تبنى أحدُ التجار الناجحينَ مثلاً مجموعةً من أصحاب المشاريع الصغيرة النامية _ وبدون مقابل مادي_،  وعمل على توجيههم ومساندتهم وتقديم الخبرات والمعارف اللازمة لهم، من خلال التواصل الدائم معهم، وكذلك الحال مع الأطباء أو الطبيبات المغمورين/ات، ممن لديهم الخبرة والكفاءة، فلو كفل كل منهم مجموعة من طلبة وطالبات الطب، ومن مختلف جامعات المملكة، وتم التواصل معهم وإمدادهم بالدعم الموجه السليم، باستخدام التقنيات الحديثة وتوظيفها التوظيف الأمثل الذي ييسر عملية التواصل، فهذا بلا شك سيكون عائدُه كبيراً جداً على كل من المتلقي، والمرسل، والمجتمع بصفة أعم، إذ أننا  حين نكفل فإننا نؤدي دوراً مهماً وهو نشر ثقافة التكافل في المجتمع، فمن سنكفله سيتعلم أن يكفل لاحقاً، كما أن الكافل قد يكون مكفولاً في مجالٍ آخر يحتاجه يوماً، بالإضافة للمنفعة الفردية التي تتحقق من وراء ذلك، كإشباع بعض الاحتياجات الروحية من خلال الشعور بالسلام، وتحقيقِ الذات، وتركِ الأثر والميراثِ النافع، وليس الشعور فقط بالكفاءة والانجاز، بل وإكساب الحياة قيمة ومعنى،  ناهيكم عن المكاسب الأخرى من تطور ونمو.

وقد كانت حريةُ الأجساد مقابل التعلم في نهج سيد المرسلين عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، حين أطلق أسارى معركة بدر مقابل تعليم أطفال المسلمين، فذلك هو الأمر في التكافل المجتمعي، إذ هو بلا شك طريق لتحرير الأرواح وانعتاق الذوات من قيودها المكبلة لها، ولا ننسى أن "زكاة العلم تعليمه"، مما يسترعي منا التنبه لذلك والعمل به ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، وهذا النوع من العطاء يجسد الحبَ، ويرسخ الانتماء، ويوثق الارتباط بالآخرين، وسنجني نتاج عطائنا منذ بداية الطريق لجعل الحياة ذات قيمة ومعنى، وليس الشعور فقط بالكفاءة والانجاز.

وهنا أشيد بتجربة الناشطة الاجتماعية غالية المحروس، التي تفرغت بعد تقاعدها من العمل كموظفة في شركة "أرامكو السعودية" لتدريس اللغة الإنجليزية لسيدات المجتمع، في العديد من مدن المنطقة الشرقية، وصولاً للأحساء، فأوصلت مخزونها المعرفي ودون مقابل إلى مجاميع كبيرة جداً من بنات الوطن بلغت ما يقارب 6000 متدربة.

و كذلك بتجربة الصحفي المتميز جعفر عمران صاحب مبادرة هذا النوع من العطاء؛ الذي عمل على تطويع التقنية  لخدمة الصالح العام، حيث قام بتدريب عشرات الشبان والفتيات على أصول العمل الصحفي، من خلال التواصل معهم وتدريبهم عبر الموقع الإلكتروني من خلال (منتدى تدريب الصحافة في شبكة المنطقة الشرقية)  وقد تجاوز حدود الوطن العربي إلى خارجه وصولاً إلى أمريكا وأوربا، فأضحى العديد من متدربيه يزاول اليوم العمل الصحفي الورقي والإلكتروني بحرفية ومهارة، إذ ألتحق ببرنامجه المئات من الجنسين، وقد بدأه بعدد من السيدات كان قد أعطاهن دورة في الصحافة على أرض الواقع في العام 2006 ووجد أن الصحافة لا يمكن إتقانها خلال أيام معدودة، فرأى ضرورة مواصلة تدريبهن وتنمية قدراتهن في الكتابة، فكانت شبكة الانترنت هي الحل للتواصل عبرها وعبر البريد الالكتروني، ولا زال يقوم بعمله التطوعي هذا من خلال متابعة بعض المواهب الصحفية.

وفي سبيل تفعيل هذا النوع من العطاء، نحن بحاجة إلى تجارب جماعية، تكون وسيعة المدى في الهدف والفكرة وطريقة العرض.

 وأقترح هنا فكرة القيام بإنشاء موقع إلكتروني، يحوي قاعدة بيانات بأسماء الراغبين في تقديم خبراتهم، وماهية الخدمات التي يستطيعون تقديمها، حتى وإن كانت لفترة زمنية محدودة، ثم نشر هذه الخدمات وإعلانها، ليتم التسجيل فيها.

ومن المقترحات أيضاً إنشاءُ لجانٍ في الأحياء تتبنى نشرَ خدمات ساكنيها لأبناء الحي الواحد، وبالتالي تعم الخدمات وتنتشر على مستوى أعم وأشمل. وهنا يُترجم الإحساسُ بالحب، والشعورُ بالواجب تجاه المجتمع إلى جهودٍ عملية من خلال مشروعٍ اجتماعي مؤسسي، أهلي الإدارة والتمويل.