الشّعرُ في مواجهة السُّلْطة

يزيد بن مفرغ الحميري نموذجًا

الشِّعرُ بوصفِهِ فنًّا يرسمهُ القلبُ ويُشرقُ من الوجدان الإنسانيّ فإنّهُ أقوى تحكُّمًا بذلك الإنسان مِنْ السلطةِ وهيمنتِها !

ومِن هُنا نفهم تلْكَ العلاقة الثنائية المتضادّة ما بين " الشعر والسلطة " ، فالسلطة لا تستغني عن الشعر ، والشعرُ يتباهَى بوجاهة السلطة ، وبهذا نستطيعُ تفسير مفهوم " شعراء البلاط " كما يُطلقُ عليهمْ فهُم أداةُ السلطة لتقوية ودعم ملكهم والشعراءُ يتكسبون بشعرهم ! ، ولذا يقترنُ اسمُ كلِّ خليفة بشاعرٍ يُرافقُه في حلّه وترحالِه !!

ولكن حينَ تكونُ العلاقةُ مشوبةً بالتنافرِ والعَداوةِ ، فإنَّ السُّلطةَ تشعرُ بالقلقِ ، إذ إنَّ الشعرَ قادرٌ على أنْ يُزيلَ مملكةً بأكملِها ، وهذا ما يجعلُ السلطةَ تتودّدُ للشعراءِ المُبَرَّزينَ أو تُرهِبُهم !

ويزيدُ بن ربيعة بن مفرّغ الحِميَري المعروفُ بابن مُفَرَّغٍ المتوفّى عام 69 للهجرة.، شاعرٌ مُفوَّهٌ ، أَلِفَ السُّلْطَةَ وصاحَبها ، فقدْ كانَ مُرافقًا لعبّاد بن زياد ابن أبيه في إحدى سفراته ، إلاّ أَنَّ تلْكَ العِلاقةَ قد تحوّلَتْ إلى عداوةٍ بسببِ بيتٍ مِن الشِّعرِ كما يُشيرُ إلى ذلك المؤرّخون  كابن قُتيبة في كتابه " الشعر والشعراء " ( ص 360(.

وقد كانَ ابن مُفرَّغٍ مستاءً مِن استلحاقِ معاوية لزيادٍ بنسب أبيه ، إذ يرَى شاعرُنا بأنَّ زيادًا ما هو إلا ابنُ زنا ، وقَدْ صرَّحَ الشاعرُ جهرةً بهذا الرأي غيرَ مُبالٍ بما سينالُه من عقوبةٍ ، فهجا زيادًا وآلَ زيادٍ وانتشرت أهاجيه بينَ النّاس وذاعَت مما جعلَ السلطَةَ تُطارِدُه من بلد إلى بلد وهو لا يستنكف عن هجائهم اللاذع وبيان جرائمهم وفضحِ نسبهم لكونِه من سفاح !

وقد كان زيادٌ يدَّعي أَنَّ أُمَّهُ " سمية بنت الأعور " من بني عبد شمس ، فردّ عليه الشاعرُ بقوله :

فأُقسمُ ما زيادٌ مِن قُريشٍ             ولا كانتْ سُميَّةُ مِن تميمِ
ولكنْ نسْلُ عبْدٍ مِن بَغيٍّ عريقِ          الأصلِ في النسب اللئيمِ

وقالَ أيضا :

إذا أودى معاوية بن حربٍ              فبشِّر شعبَ قعبكَ بانصداعِ
فأشهد أن أمك لم تباشرْ                أبا سفيان واضعةَ الـقـنـاعِ

هكذا يجهرُ الشاعرُ بأبياتِه المحظورة في قوانين السلطة ، غيرَ آبهٍ بما ستؤولُ إليهِ الأمورُ ، ومما يُميّزُ شاعرَنا الفذّ تناولُهُ الهجاءَ بطريقة مُغايرة وبأسلوبٍ جديد جعلَ شعرَهُ يطيرُ في الآفاقِ ومِنْ ذلك :

1/ الصورة الكاريكاتيرية -:

ها هنَا ترسمُ ريشةُ الشاعرِ لنَا صورةً فُكاهيّةً موجزة ركّزَ فيها علَى زاويةٍ واحدة من تلك اللوحة إنّها ثِيمة " اللحية / الحشيش"
فذات مرة سارَ يزيدُ بن مفرغ مع عباد بن زياد المعروف بكثافة لحيته فدخلت الريح فيها فنفشتها فضحك ابن مفرغ لذاك المشهد فقال :

ألا ليتَ اللِّحَى كانتْ حشيشًا            فنُعلفَها دوابَ المُسلمينا


هكذا يهزأ من تلك اللحية الكثَّة التي تعبث بها الريح ذات اليمين وذات الشمال ،  تلتقطُها عدستُه ليراها الآخرون راسمًا منها كاريكاتورًا ساخرا ، فلو بإمكانِه لحوَّل تلك اللِّحَى إلى علفٍ للحمير والدوابّ !

كانَ هذا البيت بداية معاناة الشاعر مع السلطة ، مما أوغر صدر عبادٍ عليه ، ومِن هنا بدأت رحلة العذاب لهذا الشاعر الساخر مما جعل الأمير عبادًا يتحيّنُ له فُرصةً للنيلِ منه .
     
و يرسم الشاعر هنا صورةً كاريكاتيرية ساخرة أُخرَى ، فعبّادُ بن زياد ذو اللحية الأضحوكة يسابق الفرسان فيسبقهم بجسمه وفرسه ، لكنَّ لحيتَه تأتي متأخرةً عنْه ، وذلك لكبرها وطولِها إذ تلتفُّ وراءَ عُنِقِه .

سبقَ عَبَّادٌ وصلَّتْ لحيتُهْ           وكانَ خرَّازًا تجودُ قِربَتُهْ

لا يزالُ الشاعرُ يتناول تلك اللحية ويبرزها في لوحة أُخرَى ، فهُنا جاءَتْ اللحيةُ متأخرةً عَن صاحبِها و"صلّتْ" تأخرَتْ في ذلك المضمار ، ولنا أن نتساءل هل عبّادٌ يُسابقُ الفرسان أم هو يسابقُ لحيتَهُ ؟!

وفي الشطر الثاني يُرجِعُنا الشاعرُ إلى أصل عباد قبل أن يكونَ أميرًا ، فهو خرّاز يصنع من الجلد الأحذية والقِرَبَ لكنّه لم يكن يُجيدُ صنعتَه فقِربُه تخرُّ لسوء صناعتِه !

إنّه شاعرُ سخريةٍ بحق ، يُجيدُ رسم الصورة بكلماتِه التي رنَّتْ في مسمع مُعاصريهِ !


2/ الكتابة على الجدران

حينَ تُكمِّمُ السلطةُ الأفواهَ وتُقصي خيار الحرية فإنَّ " الجدران " تحملُ على عاتقها متنفّسًا للفرد لبثّ ظلامته ، فالجدران سبّورةُ الحريّة ، تتخذها المعارضة كلافتاتٍ لشعاراتِها  !

وقد عُرفَتْ هذه الممارسة قديمًا لدى اليونان كما تدلُّ عليها بعض الآثار الموجودة ، أمّا لدى العرب فالأمرُ بحاجة إلى دراسة لنعرف متى بدأت تلك الممارسة ؟

وقَدْ شاعَتْ هذه الممارسة في العصر العباسي وما تلاه من عصور ، حيثُ يُذكر أَنَّ شاعرًا  قد كتب على قصر الخليفة المأمون بفحمةٍ بيتاً يقول فيه:

يا قصرُ جُمِّعَ فيك الشؤمُ واللومُ  متى يُعشعشُ في أركانِك البومُ ؟


وربّما يُعتبر شاعرنا ابنُ مفرّغ سبّاقًا في هذا المضمار " الكتابة على الجدران " في بداية العصر الأموي .

فقد ذكرَ صاحب " الأغاني" أنَّ ابنَ مُفَرَّغٍ لمّا هرب مِن عبّادٍ أخذ يهجُو آلَ زيادٍ ويكتبُ هجائياتِه على الجُدران في الخانات التي نزل بها ، وكَأنَّ شاعرَنا يُعلِنُ ثورةً إعلاميّة ضد بني زياد ! وربّما اختارَ الخانَات لأنّ نُزلاءَها بالعادة من مختلف الأقطار "الجنسيات " ليقرؤوا أبياتَه فيحفظوها وينشروها بأمصارهم وهذا في الحقيقةِ خيارٌ ذكي !

وقد ظلَّ صوتُهُ عاليًا يجهر بهجاء بني زيادٍ علَنًا مُتخذًا ( الكتابةَ علَى الجُدران ) وسيلتَه الإعلامية لنشر أبياتِه في محاربةِ السُّلْطة ، فقد كانَ يتنقّل في قُرَى الشامِ تاركًا بصماتِه الشعرية فيها ، فتنتشر أشعارُه فيها وتصل إلى البصرة ويحفظُها القاصي والداني ، ممّا جعلَ السّلْطَة في مأزقٍ إذ يُحاربها هذا الأعزل بكلماتِه التي نزلت عليها كحد السيف ، ومما قال :

أَعبَّادُ ، ما للّؤْمِ عنكَ مُحوَّلٌ           ولا لكَ أُمٌّ في قريشٍ ولا أَبُ
وقُل لعُبيدِ اللهِ : ما لَك والدٌ            بحقٍّ ، ولا يدري امرؤٌ كيفَ تُنسَبُ ؟!

وقال أيضًا في هجاء بني زياد :

فإذا أُميَّةُ صلصلتْ أحسابُها            فبنو زيادٍ في الكلابِ النابِحَةْ

وقالَ :

ألا قبَحَ الإلهُ بني زيادٍ          وحيَّ أبيهمُ قَبْحَ الحِمارِ


وقال متهكما بنسبِ زياد مخاطبًا مُعاوية :

ألا أبلِغْ مُعاويةَ بنَ حربٍ       مُغلْغَلَةً مِن الرَّجُلِ اليماني
أتغضبُ أَنْ يُقالَ أبوكَ عفٌّ        وترضى أن يُقالَ أبوكَ زاني
فأشهدُ أنَّ رحْمَكَ مِن زيادٍ       كرِحمِ الفيل من وَلَدِ الأتانِ

وقد ألحق معاوية زيادًا بنسب أبيه أبي سفيان ، فخاطبَه الشاعر بلغةٍ مُغلفة بالتهكّم والسخرية ، إذ إنَّ نسبةَ زياد لأبي سفيان كنسبة الفيل للحمار ، ويا لها من مفارقة مضحكة .

ولما سمع عباد بن زيادٍ هذه الأبيات كتب إلى أخيه عبيد الله وهو وافد على معاوية بها، فقرأها عبيد الله على معاوية واستأذنه في قتله، فقال: لا تقتله، ولكن أدّبه ولا تبلغ به القتل. وذلك لأنّ الشاعرَ له عشيرةٌ تحميه ، فمنعه من قتله وأجازَ له تعذيبه.

فأمر عبيد الله بابن مفرع فسقي دواء مسهلا وحملوه على حمار وجعلوا يطوفون به في الأسواق وقد أَمشاهُ بطنُه مشيًا شديدًا ، والناس ينظرون إليه وقد قرَنَ بهِ خنزيرة / أي حبلا وكلَّمَا أخرج ما في بطنِه ظهر صوتٌ مِن ذلَك الحبل ، إلا أَنَّ الشاعرَ وهو في منتهى التعذيب وكلَّما علا ذلك الصوتُ صاح :

ضجَّتْ سُميَّةُ لمَّا مسَّها قَرَني         لا تجزعي ، إنَّ شرَّ الشيمةِ الجَزَعُ

ولعلَّه يهزأ بسمية أم زياد مشبها إياها بفضلاتِه التي تلامس الحبل وكأنها هي !

إلا أن الناس في الأسواق ضجت لذلك الحال المقزّز بعدَها أمر عبيد الله به ليغتسل ليزيل تلك الأوساخ فقال ابن مفرغ مخاطبا إياه :

يغسلُ الماءُ ما صنعتَ ، وقولي          راسخٌ مِنْكَ في العِظامِ البَوالِيْ


فالشاعرُ لمْ يستسلِمْ للسلطة ولم ينثنِ رغم عقوبة السجن وإهانته أمام الناس بشرب الدواء المسهل وتعذيبه بمحو ما كتبه على الجدران بأصابعه حتى تقطع جلده ونزف دمه

وهكذا القَدَرُ شاء أَنْ يُعتقلَ شاعرُنا فزجّهُ عبيدُ الله في السجن ثمّ ردَّه إلى أخيه عباد بسجستان وأمر عبيدُ الله الموكّلين به أن يأخذوه بمحو ما كتبه على الحيطان بأظافره وأمرهم ألا يتركوه يُصلي إلا إلى قبلة النصارَى إلى المشرق فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئا مما كتبه من الهجاء أخذوه بأن يمحوه بأظافره فكان يفعل ذلك ويحكُّه حتى ذهبت أظافره فكان يمحوه بعظام أصابعه ودمه وشاعرُنا لم ينثنِ عَنْ نهجِه ومُعارضتِه حتى سلموه إلى عبادٍ فحبسه وضيق عليه وقد طالَ حبسُه ، حتّى نهضَ لهُ قومُه الحميريون وقد كانوا ذويْ نفوذ فخلّصوه من السجن .

وهكذا كانت سيرة شاعرِنا ضد الاستبداد مُتألّما لحال الأمّة وما آلت إليه الأمور جرّاءَ حكم بني أُميّة الجائر وإجرامِهم ضد الناسِ ، يصدحُ بشعرِهِ جهارًا في مواجهة السلطةِ المُستبّدة !

راجع :
1.ديوان يزيد بن مفرغ " تحقيق د. عبدالقدوس أبو صالح "
2.كتاب " الأغاني " لأبي الفرج الأصفهاني
3.كتاب " الشعر والشعراء" لابن قتيبة
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 6
1
مكارم
[ أم الحمام ]: 16 / 1 / 2011م - 11:15 ص
مقال أكثر من رائع دمت موفقاً أستاذنا العزيز ونترقب المزيد
2
بدر الشبيب
[ أم الحمام ]: 16 / 1 / 2011م - 12:37 م
أخي العزيز أبو حيدر:
أمتعتنا باختيارك لهذا الشاعر وبعرضك الجميل لمواقفه الجريئة في مواجهة الاستبداد والمستبدين.
أرجو أن تواصل درب الكتابة بقلمك النابض حيوية وعمقا.
أشكرك على ما سطرت في هذا المقال الرائع.
3
محمد العبد العال _أبو جواد
[ أم الحمام ]: 16 / 1 / 2011م - 10:00 م
!-أشكر أخي بل أستاذي أبا حيدرر على ما كشف من حقيقة تاريخية وهي أن الكتابة على الجدران ليست مستوردة من الغرب كالأدوية والسيارات والدوغمائية.
2-سجل لنا أبو حيدر أن الشعراء مبتكرون في مقاومة العفالقة والصداميين الأول.
3- دام حبرك في ريشتك .رفيقك في الخط و القلم أبو جواد.
4
عبدالعزيز آل حرز
[ قطيفي - حمامي الهوى ]: 17 / 1 / 2011م - 2:15 م
أخي مكارم

لك كل الشكر لمرورك ها هنا ، ونسأل الله أن يوفقنا جميعًا
5
عبدالعزيز آل حرز
[ قطيفي - حمامي الهوى ]: 17 / 1 / 2011م - 2:20 م
أُستاذي أبا أحمد " بدر الشبيب " وحقًّا صدق من أسماك بالـ "بدر " ، فبك نستمدُّ مِن سنا الكتابة .. وبكم يحق لنا أن نفخر بتتلمذنا على يديه .

لك خالصُ الشكر والمودة على عبقك الناثر على هذه الضفّة ، فعبورُك هنا يتركُ رائحة الفخر لي .

دُمتَ أَلَقًا منيرًا دروبَنا
6
عبدالعزيز آل حرز
[ قطيفي - حمامي الهوى ]: 17 / 1 / 2011م - 2:24 م
حبيبي رفيق قلبي ودربي " أبا جواد " محمد العبدالعال

لا أنسَى أنّك السبَّاق للكتابة ولحبرك نكهة أُخرى .

بنقدِكَ ورأيِك تنتشلُني مِن مهاوي الكيبورد !

مودّتي لك
شاعر