علاقاتنا الاجتماعية.. عواطف جامدة تحركها المصالح الشخصية!
يبدو أنّ سرعة العصر الذي نعيشه لم تدخل فقط في اختياراتنا للثياب التي نرتديها والتي يحبها بعضهم لكونها عملية، ولم تعد حصراً على الطعام الذي نتناوله على عجل ونحبه طعاماً سريعاً وخفيفاً وجاهزاً، بل إنّ السرعة والعجلة دخلت في كل شيء حتى في مشاعرنا الإنسانية وعلاقتنا في الحياة التي أصبحت تتخذ من شكل البالونة مضموناً، تحب التحليق بخفة شريطة إسعاد الأطفال بألوانها وشكلها وخفتها ثم سرعان ما تنفجر من أول وخزة تعترض طريقها.
ولم تعد الارتباطات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية التي تربط الناس ذات ميثاق سميك، فقد أصبح الإنسان يلهث كثيراً في الحياة عن شيء لا يعرفه، يلهث خلف المال، خلف العمل، خلف العلم، خلف الأصدقاء، خلف اهتماماته، وأصبح يعبر عن علاقاته الإنسانية بالشكل السريع من دون كلفة، وأن يؤديها - من وجهة نظره - خيراً من أن يتركها تماماً خوفاً من عتاب الآخرين، حتى ابتكر بعضهم طريقة جديدة في التواصل الإنساني تتناسب مع الحياة العصرية السريعة، فتواصل المرء مع والديه أصبح ذا إيقاع سريع نظراً لإنشغالاته الدائمة، وتواصل الزوج مع زوجته أصبح سريعاً نظراً لإنشغالاته، وتواصل الأصدقاء بعضهم مع بعض أصبح سريعاً ومقتضباً نظير سرعة الحياة التي أصبحت تمضي كسرعة البرق.
وعلق بعضهم على الموضوع بكثير من الواقع الذي يعيشه، حيث وجد أن هناك طعما مرا أصبح يندس بين العلاقات الاجتماعية؛ ليكسبها بهتاناً غريباً وغير مبرر، حتى إنّ بعضهم وجد علاقاته بكثير ممن حوله قد أصابها الخلل بسبب السرعة التي تملأ حياة كثيرين الذين لم يعد لديهم وقت لوقفة تأمل واهتمام بمن حولهم.
تقول «ياسمين محمد»: عشتُ مع زوجي أكثر من ثماني سنوات وخلال تلك السنوات كنتُ أنتظر خطاً أحمر يقف لديه زوجي؛ ليقف يتأمل لهثه الدائم تجاه عمله الطويل، ودراسته التي لا تنتهي وأشغاله التجارية الأخرى، فزوجي مع مرور الوقت أصبح يعتمد على سرعته في إنجاز تلك المهام اليومية ليستطيع تنظيم وقته بما يكفل له إنجازها على وجه السرعة، ثم اكتشفتُ مع مرور الوقت بأني تحولت في نظره إلى جزء من يومياته التي ينهي واجباته تجاهها (على وجه السرعة)، فحينما يحين ذكرى زواجنا أتفاجأ بأنه يترك مالاً على طاولة الطعام ويكتب على ورقة صغيرة (كل عام وأنت زوجتي) هذا مال اشتري به هدية لك، ثم يغيب طوال اليوم ولا يأتي إلا حينما أكون في سريري منهكة ونائمة من جهد الأولاد والبيت.
وأضافت: فزوجي حينما أتصل به في عمله لأوضح له أمراً مهماً قد حدث يرد علي برسالة سريعة من هاتفه الخلوي يكتب فيها «أكتبي برسالة ما تريدين أنا مشغول وسأتصل بك لاحقاً»، كذلك حينما يطلب منه أطفاله الذكور حضور مجلس الآباء في المدرسة لا يرفض لكنني أتفاجأ بأنه يذهب في ذلك اليوم متأخراً ليقف عند مكتب المدير يسأل عن الأبناء في خمس دقائق ثم يخرج مسرعا، وربما اكتفى في مرات عديدة أن يتصل بالمدرسة ليسألها، حتى وصل الأمر به إلى أن يقترح على المدير تأسيس موقع إلكتروني يرسل لأولياء الأمور رسائل تشرح فيها أوضاعهم الدراسية معلقا (نحن في عصر التكنولوجيا والسرعة) حتى إني أصبحت في كثير من الأوقات أدخل في حالات نفسية سيئة بسبب «إيقاعه السريع» في الحياة وعدم مبالاته.
وتتفق معها «أم غزال سليم» التي أمضت كل عمرها في تربية أبنائها وحينما كبروا تفاجأت بأن الجميع يلهث في الحياة من دون توقف حتى أصبح التواصل مع الأبناء سريعا وفاترا، مشيرةً إلى أنّ أبنها الأكبر الذي يأتي يزورها في كل عشرة أيام مرة وهو يقف لدى الباب من دون أن يفكر في الدخول يسأل عن حالها، ويتعذر بانشغالاته الدائمة، ثم يعطيها في يديها «مالا» ويقبل رأسها ثم يهرب من دون أن يتطلع إلى العتبة التي كان يقف لديها، وكذلك الحال بالنسبة إلى ابنتها التي تدرس في الجامعة فإنها تبقى طوال اليوم في غرفتها مشغولة بالانترنت والمكالمات الهاتفية مع صديقاتها، ومشاهدتها المسلسلات، وحينما تطلب منها أن تأتي لتجلس معها قليلا، بعد ساعات تأتي وتجلس عشر دقائق وهي مشغولة «بالبلاك بيري» ثم تنهض وتقول: «جلست معك، حتى لا تقولي لم أجلس» ثم تعود إلى غرفتها ولا أراها إلا اليوم الثاني حينما تأتي لتطلب مالا لأي غرض.
وأوضحت أن الناس أصبحوا مشغولين ليس لديهم وقت لتبادل العلاقات الاجتماعية بشكلها الحقيقي، فكلهم مشغول ومستعجل، فتعود بذاكرتها إلى الوراء لتعلق، كان الناس يختلفون في الماضي، فالروابط الاجتماعية من أهم الأمور في حياتنا، كان الأبناء يعيشون بزوجاتهم في بيت واحد، يتناولون الطعام على سفرة واحدة، ويتبادلون الأحاديث، ويتشاورون في أمورهم، كان الأبناء قريبين من والديهم، والجيران يشكلون جزءا من الأسرة لفرط التقارب الموجود، والأقارب يحترمون حقوق بعضهم بعضا، أما الآن فتغير الوضع وأصبح الجميع «مستعجلا» ليس لديه وقت للسؤال عن من يهمه في الحياة، ربما نسي بعضهم نفسه من فرط الانشغال والسرعة التي أصبحت صفة لصيقة بطريقة معيشة بعض من الناس.
وتنتقد «سامية الغشام» ما يحدث في التواصل الإنساني الجديد الذي يطلق عليه بعضهم بالعصري الذي يدفع كثيرين إلى نسيان الأصول في التعاطي مع الأقارب والآخرين، والقيام بالواجبات الإنسانية التي كانت تؤدى بشكلها العميق والتي أصبحت تتخذ شكل السطحية، مستشهدة برسائل الجوال التي أصبح من خلالها المرء يقوم بتأدية واجباته الاجتماعية، على الرغم من قدرته على القيام بمكالمات هاتفية عوضا عنها، إذا لم يستطع التواصل بشكله الحقيقي، مشيرة إلى التهاني والتعازي التي أصبحت تدخل في فرن الوجبات السريعة؛ كأن ترسل فتاة إلى شقيقها رسالة تهنئة بالعيد، مستشهدة بقصة ابنة خالتها التي أرسلت رسالة لها في عزاء عمتها تكتب فيها «عظم الله أجركم» وكأنها قامت بالواجب من خلال تلك الرسالة، وكذلك صديقتها التي أرسل لها زوجها السابق رسالة تحمل كلمة واحدة «أنت طالق» حتى أصبحت العلاقات الإنسانية تتخذ شكل السطحية وكأنها لا قيمة لها، متمنية أن يهدأ الجميع من موجة العجلة والشعور بالسرعة.
وتوضح «أمل الكناني» - المُدَرِبة في البرامج العالمية الحرة - بأنّ الحياة لم تتغير إلا أن نظرة الناس لها تغيرت، حتى أصبح هناك من ينظر لها بهذا الإيقاع السريع في العلاقات وربما لكثير من الظروف دور في التعاطي مع الحياة بهذه السرعة، التي من أهمها الإعلام والرسائل، حتى أثرت في مشاعر الناس وتعاطيهم مع العلاقات الإنسانية، مشيرةً إلى أنّ السرعة التي طالت تعبير الناس وتعاطيهم الإنساني والعاطفي مع المقربين لهم لا ترتكن إلى الحياة، بل إلى نظرة المرء وتصوره لنوع الحياة التي يحب أن يعيشها، والدليل على ذلك وجود بعض النماذج من الأشخاص ليسوا على ذلك القدر من السرعة في التعاطي مع علاقاتهم، بل العكس تماماً هناك من يحب أن يعيش الحياة بهدوء وسلاسة.
وأضافت: أما من يحبون الإيقاع السريع في تعاملاتهم فهم الذين نطلق عليهم في البرمجة اللغوية «أناس يعيشون خارج الزمن»، حيث يفضلون دائماً أن تكون الصورة واضحة لهم، مؤكدة أنه لا يمكن أن ينطبق معيار على معايير أخرى من التعاطي الإنساني، فهناك من الأشخاص من لديه مسؤوليات كبيرة في الحياة تتطلب تعاطي أسرع مع الأمور، لذلك فترتيب الأولويات هو الأهم دائماً، وهذا ما يختلف به الناس جميعاً، فهناك من يرى بأن العمل يأتي في المقام الأول من الأهمية، وهناك من يرى أن الأسرة في المقام الأول، في حين فضل بعض أن يصبح الوطن هو المرتبة الأولى في حياته، وهنا تأتي نظرة المرء في ترتيب المهام، ولذلك فالإيقاع السريع قرار فردي يدخله المرء باختياره ولها سلبياتها وإيجابياتها، مؤكدة أنّ دخول هذا العصر بجميع حيثياته وصفاته من السرعة أمراً لابد منه، وذلك ما سيلاحظه حتى من يرفض الدخول في دائرة «العصرية»، أن التأجيل لن ينفع، وأنه لابد من خوض تجربة العصر التي أصبحت تعتمد على الإيقاع السريع في كل شيء، ليس فقط في الثورة «التكنولوجية»، بل كذلك حتى على مستوى العلاقات الاجتماعية، لذلك فإن التأقلم مع هذه المنظومة الجديدة أمر جيد جداً.