ثقافة التسامح

 

اذهبوا فأنتم الطلقاء:

مفهوم التسامح يعود إلى تلك المدرسة التي أسسها الرسول ، فهناك مواقف كثيرة حول هذا المنهج الذي كان السبب الأكبر في انتشار دعوة الرسول واعتناق الناس للإسلام.

إن أجمل موقف عفوٍ شد انتباهي في حياة الرسول عندما فتح مكة!! دخل الرسول مكة بعشرة آلاف مقاتل، دخل الرسول مكة وخاطب خصومه: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟! لحظات عصيبة جدًا على قريش.. قالوا له: أخ كريم! وابن أخ كريم! قال لهم الرسول : اذهبوا فأنتم الطلقاء! إنني حقًا مدهش من هذا الموقف، لو كان هذا الشخص المنتصر غير الرسول فإنني أقولها بكل ثقة: سيحرقهم وهم أحياء ولنا في التاريخ عبرة، ماذا فعل العباسيون ببني أمية؟ لدرجة أن السفاح أخرج جسد هشام بن عبد الملك من قبره وأحرقه!

لكن الرسول لم يفعل ذلك لقد عفا عن هؤلاء الذين طردوه وحاربوه، لقد عفا عن أبي سفيان الذي اضطهده قبل الهجرة وحزب الأحزاب عليه بعد الهجرة لمدة ثمان سنوات.

وهناك أيضًا مواقف لا تقل جمالًا وروعة حول هذا المنهج الذي تعلمه الأمير من الرسول الأعظم ، ويمكن للمرء أن يتساءل هذا السؤال: لماذا عفا الأمير عن مروان بن الحكم وابنه عبد الملك في معركة الجمل مع أنهما لا يستحقان العفو؟! والصدمة الكبرى أن الأمير أخبر ابنيه الزكي والشهيد كما في نهج البلاغة أن الأمة ستلقى منه ومن ابنه موتا أحمر!

هذا المنهج موجود ومستمر في مدرسة الزكي الذي هو امتداد مدرسة أبيه الأمير وجده الرسول ، ومن الأرجح أن عقيدة التسامح أوليت اهتمامًا خاصًا في نظامنا الإسلامي، لقد ركز عليها الرسول وأهل بيته، وهناك المئات من المواقف التاريخية يستطيع القارئ الرجوع لها في كتب التاريخ.

وللأسف فإن الكثير يروجون للانتقام والثأر بلغتهم الاستفزازية متناسين منهج الرسول حول هذه العقيدة، فالواجب علينا أن ننشر ثقافة التسامح في جميع أفراد المجتمع صغارًا وكبارًا رجالًا ونساءً، بدلًا من أن نحرضهم على العدوانية والانتقام وزرع التفرقة بين أفراد المجتمع.

 مغالطة حول مفهوم التسامح:

وأحب أن أنوه هنا بأمر وهو أن العلامة الشيخ عباس العنكي من الذين أعطوا هذه المسألة اهتمامًا كبيرًا، فقد تشرفت بأداء الأعمال خلفه في ليلة القدر في السنة المنصرمة من عام 1431هـ، لقد صاغ لنا موضوعًا جيدًا قبل أداء الأعمال حول تفسير سورة القدر فأخذ يسترسل في شرح فقرات هذه السورة، مبتدئًا من نزول القرآن جملة على الرسول في هذه الليلة ثم نزوله مفصلًا حسب الحوادث التاريخية، ولقد اندمجت بكل عقلي في الكلمات الذهبية التي ينطق بها حتى وصل إلى آخر فقرة من السورة.

فقال: ينبغي لنا أن يكون عندنا سلام، فالله يدعو للسلام في هذه الليلة، وهناك مسألة مهمة وهي مغالطة يقع فيها الكثير من الناس فهم يعتقدون أن العفو والتسامح لا يكون إلا لمن يستحق العفو والتسامح فقط!

فأوصل رسالة إلى المصلين أن هناك مغالطة يقع فيها الكثير أنهم يعتقدون أن العفو لا يكون إلا لمن يستحق العفو؛ بل على العكس تمامًا إن من لا يستحق العفو هو أجدر وأولى بهذا العفو.

أقول: قد يكون الكثير غير مقتنعين بهذا الكلام، حتى أن بعضهم قال: إنني أول مرة أسمع بهذا مستنكرًا، إننا لو تفكرنا قليلًا عرفنا قوة هذه الكلمات التي تلفظ بها العلامة، وهذا هو التاريخ أمامنا نرى مواقف كثيرة صادرة عن أئمة مذهبنا حول التسامح، وما موقف الزكي أدناه إلا نموذجٌ على هذا الكلام.

 الزكي والشامي:

إن أجمل ما قرأت في هذا العنوان ما رواه صاحب كتاب مناقب آل أبي طالب: "أن شاميا رآه راكبا فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلما فرغ أقبل الحسن عليه، فسلم عليه، وضحك، وقال: أيها الشيخ أظنك غريبًا، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعًا أشبعناك، وإن كنت عريانًا كسوناك، وإن كنت محتاجًا أغنيناك، وإن كنت طريدًا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعًا رحبًا وجاهًا عريضًا ومالًا كبيرًا. فلما سمع الرجل كلامه، بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه; الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحب خلق الله إلي، وحول رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبتهم"[مناقب آل أبي طالب 4/20].

في الواقع إن حياة الزكي بحد ذاتها صدمة كبيرة، مواقف حلمه أم مواقف كرمه التي يُصدم لها العقل، أم حجه خمسًا وعشرين مرة ماشيًا!! أم صبره على مواجهة أعدائه وخيانة أصحابه وتمرد زوجته!! ولكي نزداد فهمًا وقوة لهذه المواقف فلا شك أن شهادة العدو هي من تبرز قوة هذه المواقف، فليس هناك أصدق من شهادة العدو.

وهذه المواقف ظهرت لجميع البشر ومن قوتها شهد لها العدو والتاريخ، فهذا مروان أشار إلى ذلك في وثيقة تاريخية نقلها الكثير من المؤرخين، إنه استغل هذه الصفة عندما أشار إلى الجبل وكأنه يقول: إن حلم الزكي أعظم من هذا الجبل!!

فهل نحتاج أن نبرهن على حلمه وتسامحه وهذا مروان بن الحكم ينطق بهذه الكلمات؟! إن مواقف الزكي في الحلم أكثر من أن تحصى ولا عجب أن يلقب الزكي بحليم أهل البيت! نعم إنه الحليم والكريم والصبور والمتسامح كل هذه الصفات اجتمعت في شخصه الكريم.