ثقافة الهزيمة

الأمة التي تريد أن تحقق النصر لابد أن تأخذ بأسبابه، وتستوفي شروطه، وتدفع ثمنه، وتحدد أهدافه، وأول شروط النصر أن تتحرر الأمة من ثقافة الهزيمة، وأن تدرس أسباب هزائمها وانكساراتها لا لتغرق في اليأس وفقدالقدرة على استعادة التوازن، ولكن لتستكمل أسباب النصر.

من لا يعرف الهزيمة لايمكن أن يحقق النصر لأن تجربته التاريخية تظل ناقصة، وقدرته على مواجهة الأزمات تظل محددة.

والأمة يمكن أن تحول هزائمها إلى انتصارات عندما تحلل أسباب الهزيمة فتستكمل خبرتها التاريخية، وتحول تلك الخبرة إلى مصدر للقوة.. وهنا تظهر أفضل ما في الأمم من سمات، فالقوة لاتكمن فقط في القدرة على تحقيق النصر، ولكن تظهر عندما تواجه الهزيمة وتنهض وتقاوم وتقاتل وتنتصر.

الهزيمة النفسية

الهزيمة تظل ناقصة حتى تتحول إلى هزيمة نفسية تبرر الخضوع للمنتصر الغالب، والاستسلام لسيطرته، وكثيراً ما تتحقق الهزيمة النفسية قبل أن تقع الهزيمة المادية، وعندئذ لايكون هناك حاجة للحرب إلا إذا كانت لإثبات جبروت الغالب وتأكيد هيمنته.

والهزيمة النفسية يمكن أن تقع أيضا بعد الهزيمة المادية فتتحقق أهداف المنتصر في فرض هيمنته الثقافية والمادية على الشعب المغلوب.

ولأن الأيام دول، فكل الأمم معرضة للهزائم المادية والنفسية، لكن الأمم القوية هي التي تستطيع أن تقاوم ثقافة الهزيمة والخضوع للغالب وتقاوم الذوبان في ثقافة المنتصر، والأمم القوية هي التي تتحرر من احتقار الذات عقب الهزيمة، ومن القابلية للهزيمة النفسية التي تقود إلى حالة اليأس والعجز والضعف وتقليد المنتصر.

وأخطر ما يمكن أن تتعرض له الأمم أن تتحول الهزيمة إلى ثقافة تبنى على أساسها النظم السياسية والاقتصادية والتعليمية، وتبرر للفرد الاهتمام بذاته ومصالحه الشخصية، وتحقيق أحلامه الفردية، وعدم الاهتمام بالمجتمع.

سياسة مهزومة!!

تتحول سياسة المجتمع إلى حالة ركود وجمود واستسلام للأمر الواقع ومحافظة على الاستقرار، وسياسة الهزيمة لاتدفع المجتمع إلى التطور والتقدم والاعتماد على الذات وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

وثقافة الهزيمة تبرر الخضوع للاستبداد الذي يتحالف مع الممثل، فالشعب كما يروج المهزومون لم ينضج سياسياً، ولايستطيع ممارسة الديمقراطية، وعلى الشعب أن يخضع للحاكم، فلايوجد بديل يصلح للحكم.

الحاكم المهزوم يحتقر شعبه لأنه يحتقر ذاته، وهو يخفي الشعور بالدونية خلف سياط القهر التي يستخدمها لإذلال شعبه.

لايمكن ممارسة الديمقراطية في ظل ثقافة الهزيمة، فالديمقراطية لابد أن تقوم على ثقة الشعب في قدرته على التغيير وتقرير مصيره وضع مستقبله.. الديمقراطية يصنعها الأحرار الذين يثقون في ذاتهم، وفي قدرتهم على صنع التقدم وعلى تطوير مجتمعاتهم بأفكارهم ورؤاهم وإبداعاتهم.

عملاء الاستبداد يروجون لثقافة الهزيمة لأنها تشكل المناخ الذي تتضخم فيه ذات الحاكم، ويضعف فيه الشعب الذي يزداد انكساراً كلما تزايد شعوره بعدم الأمل، ولذلك ترتبط ثقافة الهزيمة باليأس.

اقتصاد الهزيمة!!

الهزيمة تشكل اقتصادها الذي يقوم على الاستهلاك، والتجارة في منتجات المنتصر، وعلى مبادلة المواد الخام الرخيصة بالسلع المصنعة ذات الثمن المرتفع، اقتصاد الهزيمة يقوم على التبعية للمنتصر وعدم الانتاج وعلى الأنشطة الطفيلية، واستهلاك الموارد، وعدم القدرة على تحقيق خط تنمية طويلة الأجل.

وفي اقتصاد الهزيمة ينتشر الفساد والنهب من البنوك وتهريب الأموال للخارج الذي يعتقد المفسدون أنه الأكثر أماناً لرؤوس أموالهم المهنوبة.

اقتصاد الهزيمة يقوم على إغراء الناس بتحقيق أحلامهم الفردية والتمتع بالحياة حيث لايكون للناس أهداف عليا وهكذا تشكل ثقافة الهزيمة اقتصادها كما تشكل سياستها، والنتيجة الوحيدة لذلك الاقتصاد هو تزايد الفقر والمآسي الإنسانية.

أدب الهزيمة

وثقافة الهزيمة تشكل أىضا أدبها وفنونها التي تقوم على المبالغة في تصوير حالة الضعف الإنساني، وتمجيد السقوط، وتبرير الخيانة وتصوير الحياة على أنها تقوم على الجنس.

الاستمتاع بمتابعة حالات الضعف الإنساني هي السمة العامة لأدب الهزيمة الذي ملأ حياتنا وشوه صورتنا.

أدب الهزيمة لايحفل بجوانب القوة في الإنسان كأنه يبرر للمجتمع أن يظل مهزوماً ومأزوماً وللإنسان أن ينصرف عن المجتمع إلى حياته الخاصة.

أدب الهزيمة يقوم على جلد الذات وتحقيرها، وكل رموز المجتمع تسير دائماً نحو السقوط، ولذلك يلجأ أدب الهزيمة إلى الغموض والرموز المغلقة.

أما الفنون فإنها تميل إلى التسلية الهابطة الرديئة، وكل ما يمكن أن تقدمه هو لحظة متعة عابرة.

آن لنا أن نتحرر

لقد شكلت ثقافة الهزيمة حياتنا منذ الهجمة الاستعمارية الأوروبية على وطننا العربي في القرن التاسع عشر وحتى الآن.. لكن تلك الثقافة انتشرت وازدهرت عقب هزيمة 1967، التي كانت بحق أخطر الهزائم التي تعرضت لها الأمة.

وكان لثقافة الهزيمة تأثيرها على سياستنا واقتصادنا ونظمنا التعليمية وإنتاجنا الأدبي والفني، وكان لها أيضا تأثيرها على فشل خططنا التنموية، لقد أدت تلك الثقافة إلى زيادة فقرنا وبؤسنا وهواننا.

ولقد آن لنا أن نتحرر من تلك الثقافة، فالأمة الإسلامية بالرغم من المأساة التي تعيشها قد بدأت رحلة الصعود، وهناك الكثير من الأدلة والبراهين على أن هذه الرحلة قد بدأت، وأنه لاسبيل إلى وقفها أو إعاقتها.

لعل أهم تلك الأدلة أن هذه الأمة بالرغم من عنف الضربات التي تعرضت لها عبر قرنين من الزمان مازالت قادرة على المقاومة والتحدي.

القدرة على المقاومة تعني الحياة وإمكانية تحقيق النصر وإن طال الأمد.

الأمة التي مازالت تمتلك القدرة على المقاومة والثبات والصمود والتحدي يمكن أن تنهض وتستعيد عافيتها، وتكرر تجربتها التاريخية وتستفيد من دروس هزائمها وتحول تلك الهزائم إلى انتصارات.

لذلك آن لنا أن نتحرر من ثقافة الهزيمة واليأس والعجز والاستسلام للواقع.. وأن ننتفض لنشكل ثقافة المقاومة التي يمكن أن نقود بها الكثير من الشعوب المقهورة التي أصبحت تتطلع لأمتنا لتشكل لها نموذج الكفاح والمقاومة.

آن لنا أن نتحرر من ثقافة الهزيمة لنبني نظماً سياسية جديدة تقوم على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ونبني نظماً اقتصادية تقوم على الإنتاج والاكتفاء الذاتي والتنمية والتصنيع.. ونبني نظماً تعليمية توفر لكل إنسان حقه في التعليم المستمر، وتحفز قدراته على التفكير والتحليل والإداع وفهم الحياة وبناء مجتمع المعرفة.

لقد آن لنا أن نتحرر من ثقافة الهزيمة لنشكل ثقافة جديدة لعصر جديد يحمل الكثير من البشارات بنهضة جديدة، وانتصارات عظيمة.