هل تفهم الأمة شباب "الفيس بوك" (4)
قال صديقي الخمسيني وهو من حملة الدكتوراه: أنا لا أدعي فهم شباب اليوم، وأجد أن اللغة بيني وبينهم قاصرة عن مد جسور تتفهمهم، لأن لهذا الجيل، اليوم، لغته الخاصة ومشاكله الخاصة، وهي بحاجة إلى جهد للفهم والتفهم. ما قاله صديقنا قد عبر عنه بعض الدارسين الاجتماعيين والمتابعين بطرق أخرى، لكنها مجتمعة تفيد بضرورة إعادة قراءة وصياغة فهم أوضاع الشباب ودراسة مشاكلهم وتفهم حاجاتهم ولغة التواصل بينهم لإدراك بيئتهم التي يسبحون فيها، ومن ثم امتلاك القدرة على التفاهم والتواصل معهم.
أهمية هذه النقطة لا تنبع من كونها المدخل لمعرفة ارتباط تطلعاتهم وطموحاتهم تجاه الإصلاح والتغيير في الأمة فحسب، بل هي المدخل لمجموعة من المسارات المؤثرة في حياتهم ومستقبلهم. الآباء والأمهات بحاجة لها ليتمكنوا من التعامل مع أبناءهم. علماء الدين بحاجة لها ليتمكنوا من وضع البدائل الشرعية لتوجيههم. مدراء المدارس والجامعات والمعلمون بحاجة لها لينطلقوا منها نحو تفعيل آليات وأدوات ومبادئ تؤسس لتعليم ناجح للشباب. جميع مؤسسات المجتمع المدني بحاجة لها، لأن أغلب المتطوعين فيها من جيل الشباب كالأندية الرياضية والفنية وغيرهما...
وتزداد أهمية هذه النقطة عند المعنيين بالتخطيط لهذه الفئة في الدول والمجتمعات، وعند راسمي مناهج التربية والتعليم، وكذلك التعليم العالي، بخاصة وأن هذه الفئة تُشكل ما يفوق على 50 في المائة من سكان العالم بما فيها البلدان الإسلامية والعربية. لذا فإن المطلوب من الجميع بحث ودراسة هذا الموضوع ، الأسرة، قطاع التعليم، المخططين، مدراء وأصحاب مؤسسات المجتمع المدني، كلهم معنيون بمحاولة فهم وتفهم جيل شباب اليوم.
لا نبتغي المبالغة في طرح الموضوع. لذا، وقبل كل شيء، ينبغي عدم تهوين أو تهويل مسألة فهم وتفهم الشباب. هم شريحة اجتماعية قائمة بيننا، فالحديث عنهم ليس حديثاً عن فئة تعيش في كوكب أخر لا نعرف أوصافها وحجمها وبيئتها الغريبة عنا، وإنما الحديث عن فئة تعيش بيننا ونتعامل معها بشكل يومي. ولقائل أن يقول: فلماذا يتم طرح هذا الموضوع؟. نقول: ما جعل الموضوع مثاراً للطرح في السنوات العشر الأخيرة تقريباً هو ثورة الاتصالات والتواصل الجديدة بين الناس. في زيارة لي للولايات المتحدة الأمريكية قبل أثنى عشر سنة، وجدت حينها، أن بعض مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية المرتبطة بالدولة والجامعات تبحث في الفجوة الاجتماعية الأخذة بالتزايد بين الأبناء والآباء والأمهات بسبب انشغال جيل الشباب والشابات بالانترنت ومتابعة الفضائيات.
قبل أشهر شكت لي أحدى الأخوات وضع زوجها الشاب المنشغل بمتابعة صفحته في الفيسبوك وتويتر لدرجة الانغماس مما جعله حاضراً غائباً عنها وعن أولادها، حتى عندما يجتمع مع والديه وإخوانه وأخواته، يكون مشغولاً عن الجميع بالأي فون لمتابعة شبكة الانترنت! ويقول قريب لنا: ذات يوم أسبوعي يجتمع فيه أفراد عائلتنا لاحظت وجود عشرة منا منشغلين إما بالأي فون أو بالابتوب طوال ساعات في مجلس واحد!
أظهرت دراسة أمريكية أن واحدا من أصل كل 25 مراهقا في الولايات المتحدة يقول إن لديه "نزوعا لا يُقاوم" نحو زيادة الوقت الذي يمضيه على الإنترنت، الأمر الذي حدا بالخبراء إلى التساؤل عن ظاهرة "إدمان الشبكة" لدى جيل الشباب. كما وجدت الدراسة، والتي شملت أكثر من 3500 طالب وطالبة من طلاب المدارس الثانوية في ولاية كونيكتيكات الأمريكية، أن المشاركين الذين يعانون من "مشاكل في استخدام الإنترنت" هم أكثر احتمالا للإصابة بأعراض الاكتئاب والسلوك العدواني وتعاطي المخدرات، وذلك مقارنة بنظرائهم الذين ليس لديهم مثل تلك المشاكل. ففي مقال نشروه في مجلة كلينيكال سايكولوجي (فصلية علم النفس السريري)، قال الباحثون: "قد يكون الاستخدام الإشكالي للإنترنت موجودا لدى حوالي أربعة بالمائة من طلاب المدارس الثانوية في الولايات المتحدة".موقع بي بي سي العربي
ق مراسل صحيفة كريستيان ساينس مونيتور ناقوس الخطر في تقرير مطول من واشنطن، يتطرق فيه إلى تأثير وسائل الإعلام الإلكتروني الجديدة على الصحافة التقليدية. ومما جاء فيه:
لدينا الفيسبوك وتويتر اللذان أصبحا منهل الشباب للحصول على الأخبار. وفي بحث لمركز بو للأبحاث يرى 60% من الفئة العمرية 18-29 عاما أنه من الضروري مشاركة الأخبار والحوادث مع الآخرين عبر رفعها على الفيسبوك أو بواسطة البريد الإلكتروني. يذكر أن هذه النسبة هي الأكبر بين جميع الفئات العمرية الأخرى. وهنا يتطرق تشيني إلى تهديد يعتبره في غاية الأهمية، حيث يقول إن خبراء الديمقراطية أبدوا مخاوف عميقة من حبس الشباب لأنفسهم داخل مجموعة من الأصدقاء عبر الفيسبوك، وهم في الغالب أصدقاء يعرفونهم شخصيا أو تجمعهم بهم اهتمامات أكاديمية ومعرفية، وينحدرون من خلفية متشابهة. تقرير صحفي في 15/5/2011م بعنوان: في ظل تنامي استخدام الإنترنت وسيلة إخبارية، هل ولى زمن الصحافة التقليدية؟ / موقع الجزيرة نت:
شباب الفيس بوك
اللقطات السابقة ليست للحصر وإنما لتقريب الصورة للذهن. وهي ليست حالات فردية فنتجاوزها، وإنما حالات واسعة تحتاج إلى التوقف عندها والتأمل فيها. فهاتف الجوال بأنواعه المتطورة للتواصل بالصوت والصورة والنت، والاب توبات، وصفحات الفيس بوك، وصفحات تويتر، جميعها كانت أساس التواصل الاجتماعي الذي شكل بيئة حراك الشباب العربي في تحريك الشارع فاسقط أنظمة، وجعل بعضها يترنح، وجعل أخرى تستبق الأحداث عبر خطوات استباقية تتقي بها ما حدث في غيرها من الدول. حراك الشباب اعتمد على هذه الوسائل في نقل همومهم وطموحاتهم من الصفحات الافتراضية على الشبكة العنكبوتية إلى ميادين التحرير وشوارعها في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين.
حتى أشهر قليلة كانت الصورة المنطبعة في أذهان الكثيرين، ربما، تغلب عليها الجانب السلبي من الانشغال والتشاغل بتلك الوسائل عن الأسرة والمجتمع. بيد أن ما حدث في "ربيع الثورات العربية" بدل شيئاً من تلك الصورة. لا يعني ذلك انتفاء الصورة السلبية، وإنما سطوع للجانب الايجابي منها، لأن ما قام به الشباب يعبر عن قدرة على نقل مجتمعهم الافتراضي في النت، أو الوهمي كما يسميه البعض، إلى مجتمع حقيقي وواقعي على الأرض وفي الساحات والأزقة. هذا هو "مجتمع الفيسبوك" أو "مجتمع شباب الفيسبوك".
لم يكن مجتمع الشباب في الفيسبوك مقنعاً للكثيرين بأنه مجتمع حقيقي وواقعي ومن الممكن أن يصنع تفاعلاً بين أهله وعناصره. بمعنى أخر لم يكن ذلك المجتمع منظوراً وملموساً على الأرض، لذا أُطلق عليه أسم "المجتمع الافتراضي" أو "المجتمع الوهمي". لا لأنه غير موجود، وإنما لأنه، مقارنة بالمجتمع الطبيعي، غير متشكل في بيئة تتكون من أفراد يحتكون ويحاكون بعضهم وجهاً لوجه، يقرءون تفاعل الآخرين تجاههم من حركات أجسادهم ووجوههم، فيلمسون رضاهم أو رفضهم أو مواقفهم من خلالها وعبر ما يسمعوه بأذانهم منهم مباشرة، وغالباً ما يكون هذا الاحتكاك الاجتماعي بين أفراد يعرفون بعضهم، أو في طريقهم للتعارف المباشر. منذ خلق الله البشرية والتدافع الاجتماعي بين الناس يقوم على الاحتكاك والمحاكة المباشرة بين أفراد المجتمع. لا يزال هذا التدافع هو القائم والسائد في المجتمعات العالمية. الجديد اليوم، أننا أمام مجتمع من نوع أخر "مجتمع الفيسبوك".
يقتصر التفاعل بين أفراد "مجتمع الفيسبوك" على الكتابة النصية في أغلب الأوقات، وعلى الصوت في بعض الأحيان، وفي أوقات أقل يكون التفاعل بالصوت والصورة. هنا، يجد المراقب لهذا المجتمع أو المتعامل معه، أن هناك لغة نصية غير مألوفة يتم تداولها بين المشتركين فيه. حروف ترمز إلى أشياء، وكلمات ترمز إلى صفات، ومصطلحات ترمز إلى تقنيات محددة... وتزداد هذه الحيثيات غموضاً كلما كان المشتركون مسجلين بأسماء حقيقية، لأن بعض من التكاشف في تناول الموضوعات بالأسماء المستعارة يجعلها أقل غموضاً. فنسبة الغموض التي تصل إلى السرية في تداول الموضوعات أو الأسماء هي من سمات المجتمع الالكتروني.
ومن الملاحظ على مجتمع "الفيسبوك" أن المشترك يتعامل مع مجتمع واسع وشرائح متداخلة وكثيرة، ومن جنسيات لا محدودة، بل تسقط القطرية والحدود الجغرافية بين المشتركين، وهنا ميزة أخرى لهذا المجتمع، وهي ارتفاع حواجز نفسية ورسمية بين المتواصلين فيه الذين تربطهم هموم مشتركة وصفات ذاتية تجمعهم في هذه الصفحة أو تلك. بيد أن المشتركين يتحولون بالتدريج إلى مجتمعات أضيق بحثاً عن همّ واحد مشترك أو مطلب واحد جامع بينهم، كصفحة علمية أو سياسية أو فنية...إلخ، وكما يحدث في المجتمع الطبيعي بين التضييق والتوسع في بناء الشلل الاجتماعية وتفككها هو كذلك في مجتمع النت، ولكن بقدر ما طريق تفكيك الشلل الاجتماعية غير سهل الحدوث، يمكن القول أن شللية مجتمع النت سهلة التفكك والخروج منها بمجرد أن يقرر الفرد المشترك ذلك.
في مجتمع النت ليس للمشتركين المتشاركين في صفحة منه ضرورة التقارب بين أفراده في العمر والصفات كما هو الأغلب والأعم على المجتمع الطبيعي. فقد يجد المشارك أعمار متباينة ومتعارفة ومتداخلة في صفحة واحدة، لكن كلما كانت موضوعات الصفحة أكثر عمقاً موضوعياً في مجالات العلوم والفكر والسياسة تتقلص غالباً الصفة العمرية بين المتشاركين لتجتمع كل فئة عمرية على مطالبها المشتركة. هنا لا نجد الأمر يتعلق بالشباب بشكل خاص، ولكن غالباً ما يجتمع الشباب على هموم مشتركة قد يبتعد عنها الأكبر سناً وذلك لوجود فوارق نفسية تجمعهم وتبعدهم عن الأكبر سناً كالحماس وحب المغامرة والرغبة في التجديد والتمرد على الحياة التقليدية، وهو ما حصل في موضوع "مجتمع شباب الثورات العربية" على شبكة الانترنت.
ربما هناك نقطة إضافية على ما سبق، وهي أن الشاب في مجتمع النت وجد حياة بديلة عن حياته الطبيعية، وإن لم تعوضه كل التعويض، فقد وجد من يصغي إليه، ويستمع لمشاكله وفضفضاته، ويناقشه فيها، وقد يبادله المشاعر ويواسيه إذا ما احتاج للمواساة، ويضاحكه ويسايره في كل لحظة ويوم، ويأتي ذلك في عالم المجتمع الطبيعي الذي تشاغل فيه الآباء والأمهات عن أبناءهم بهموم ومتطلبات الحياة اليومية استجابة لسرعة إيقاع الحياة العصرية والركض اليومي وراء الالتزامات التي لا تتوقف. فلا غرابة من وجود حالة من الغربة بين الأبناء والآباء عندما يعيش الجميع هذه الحالة، فيغيب التواصل وتضعف لغة التفاهم والتفهم وتبدأ الفجوة بين الجيلين في الاتساع.
لذا، ومن جهة أخرى مهمة، لم تعد صياغة شخصية الشاب والشابة مرتبطة حصراً بالمؤسستين التقليديتين الأسرة والمدرسة ومجتمعه الصغير والطبيعي كالسابق. سيبقى دورهما أساسي، ولكن لا ينحصر بهما، إذ بات للمجتمع الانترنتي تأثير واضح على تطلعاتهم ونوعية همومهم وطبيعة ميولهم وطرائق تفكيرهم، لأن الشباب، جل الشباب، وجدوا في مجتمع النت تلبية لأغلب حاجاتهم ابتداءً بالألعاب المسلية والمتنوعة التي تستجيب مع طبيعة تفكير كل واحد منهم، ومروراً بالمواقع الرياضية المتعلقة بالألعاب الرياضية المحببة لديهم، وصفحات التعارف بين الجنس الواحد أو بين الجنسين، وصفحات التعليم والتعلم، وصفحات البحث والإعلام والموضة والحوارات السياسية المثيرة والساخنة، وانتهاءً بجميع المواقع والصفحات، الصالح منها والطالح. فبضغطة زر صغير يدخل الشاب في عالمه الأقرب إلى نفسيته وفكره ومزاجه في كل وقت وكل مكان.
مما يدفع الشاب للدخول والتفاعل مع هذا المجتمع: الرغبة في المشاركة واثبات وجوده وحضوره والتعبير عن رأيه، والحماس لما يحب ويرغب، والتمرد على الروتين الاجتماعي، وحب المغامرة عبر اقتحام كل الأبواب، وحب الفضول لمعرفة كل شيء بوقت قصير، الاندفاع لكل جديد والميل للتجديد، وربما الهروب من الواقع، أو الرغبة في إفراغ شحنة من الغضب والعاطفة...إلخ.
لا يعني جل ما سبق، لفهم الشباب وتفهمهم، أنهم يعيشون في العالم الافتراضي فقط، بالطبع لا، وإنما تلك الصورة باتت اليوم الأكثر سطوعاً في حياتهم، والتي تتطلب مزيداً من البحوث الميدانية والاجتماعية لمعرفة مقدار تأثيرها على حياتهم، ومعرفة حجم أهميتها في صياغة شخصيتهم. ويبقى للحياة الاجتماعية التقليدية، الأسرة والمدرسة والحارة والأصدقاء، يبقى لها دائرة التأثير الأولى، بل تبقى هذه الحياة هي الأساس لتحديد مجتمع النت الذي يختاره، وهي المفتاح الذي يُشكل ويرسم قرارات الشاب حول اختياراته وتنقلاته داخل مجتمع الفيسبوك، فإذا ما مالت شخصيته للدين والمتدينين كانت خياراته النتية في هذا الاتجاه، وإذا ما كانت نفسيته ميالة للساسة والسياسة ستركن حينها للمواقع النتية ذات الطابع السياسي، وإذا ما شطح مزاجه للانحراف والمنحرفين، لا سمح الله، سيخوض مع وفي مجتمع النت الفاسد والعياذ بالله.
لا يمكن الإدعاء بأن أمتنا اليوم تفهم شبابها، ولا يمكن الزعم بأنها لا تتفهمهم، ولكن يمكن القول بأنها تعيش حالة قصور عن تفهمهم والتفاهم معهم. فالأمة اليوم، الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة، بحاجة إلى إعادة صياغة فهمها للشباب بمنظار جديد يأخذ بالاعتبار كل الظروف المحيطة بهم، لاسيما تلك المجالات التي تأخذ الحيز الأكبر من اهتماماتهم وانشغالاتهم.