الشرطي والوزير !
قبل أسبوع ، وكما يقال صبّاحي ، وبمعية قهوتي السوداء ، كنت في طريقي إلي سوق شعبي شهير، فأردت أن أستغل الوقت وأستمع إلي إذاعة الكويت ، والتي طالما أحببت برامجها منذ طفولتي ، فرجع بي برنامج ( مراحب الشهير ) عشر سنوات للوراء ، إذ تذكرت حينها قصة الوزير والشرطي أبو شارب ، كما وصفه مذيع البرنامج الكوميدي الزميل هاني ، إذ قال :
في العطلة الأسبوعية الرسمية لأنجلترا، أرتكب وزير بريطاني مخالفة مرورية بوسط سوق لندن ، إذ أوقف سيارة الحكومة بالموقف المخصص لذوي الأحتياجات الخاصة ، وبعد عودته من التسوق وجد تذكرة المخالفة مُلصقة على نافذته وبها أسم الشرطي الذي حررها ورقم شارته ، وبينما هو ( الوزير ) يغادر الشارع ، شاهد الشرطي الخمسيني وجهاً لوجه !
بعد مرور أسبوعان من الحادثة ، رن تلفون منزل الشرطي ، وكان المتصل مكتب الإدارة العامة للمرور بمحافظة لندن ، وقال له ( راجع إدارة المرور حالاً ) ، فقال الشرطي لزوجته ، أنا كنت أعرف أنهم سيتصلون بي ، وأستباقاً للأحداث وضعت بدلة الشرطة مع الشارة بهذا الكيس ، وسأسلمها لهم مع أستقالتي ، فأستشاطت الزوجة غضباً ، وأقنعته أن يوكل محامياً للقضية قبل يتهور بقطع رزقه ، وما أن دخل الشرطي مطأطأ الرأس على مساعد وزير الداخلية ، تفاجأ بوجود الوزير صاحب المخالفة جالساً أمامه ، فأخبره المسؤول بالداخلية :
لقد أخبرنا معالي الوزير بكل ماحدث ، وكيف إخلاصك في عملك لم يتأثر أمام كبار مسؤولي الدولة ، لذا فقد قدم الوزير توصية خاصة بك إلي وزير الداخلية ، وهي بترقيتك شارتين تحتاج عشر سنوات حتى تحصل عليهما ، وزيادة في راتبك تعادل الضريبة الحكومية التي تخصم من رابتك الشهري ، وهذا ظرف به مبلغ قدم لك من صندوق الإعانات الخاصة برواتب الشرطة ، كمكافأة لجهودك وإخلاصك لعملك ووطنك ، فأبتسم الشرطي والغبطة تملأ محياه ..
حتى تحولت الإبتسامة إلي بكاء من السعادة ، ورجع إلي زوجته وأخبرها بكل ماحدث .
لنعود أحبتي إلي واقعنا وحاضرنا في السوق الشعبي ، فحاولت على مضض الحصول على موقف ، لكن لم أجد ، مع إني أحتاجه فقط لمدة خمس دقائق لشراء حاجتي ، فأنبعثت بعقلي فكرة ( أختبارية ) لعلها ُترزق النجاح ، فأوقـفت سيارتي بزاوية رأس السوق المزدحم بالناس ، وما أن هممت بمغادرة السيارة ، حتى سمعت صوتاً كالرعد يأمرني بتحريك سيارتي، فعرفت إنه البوليس السري ، فأدمت النظر هنا وهناك حتى أصطدت سيارته المختبأة ! فذهبت إليه وطرقت زجاجة سيارته ، فخرج مستغرباً ، فأعطيته كرتي الخاص ، ونفخت ريشي أمامه كالطاووس ببدلتي الأفرنجية ، وقلت له : أنا المؤلف الفلاني والكاتب العلاني ، حتى أبتسم وقال لي وقال :
عادي سيدي ، خذ راحتك وتسوق ! ، وبعد مرور خمس دقائق لا أقل ، رجعت له ثانية فأستقبلني بحفاوة منقطعة النظير ، فقلت له : هذا ليس من صالحك ! وأنت خسرت الأختبار ، فتفاجأ وقال لماذا ؟ أنا خدمتك ، فـقاطعت كلامه : النظام فوق الجميع ، ولايجوز أن تسمح لي أو لغيري بالقفز على القانون .. لذا سأكتب فيك مقالاً بالصحف ، فخاف وترنح وأرتعدت فرائصه ، وقال أرجوك لاتذكر أسمي ، هذا رزقي ورزق عيالي ، فقلت له :
لاتخف ، فقد أردت أن أجعـل من قصتك عبرة وللناس ذكرى ، وكيف أضع أمام عقول الناس المفارقة بينك وبين الشرطي الانجليزي ، مع فارق عقد كامل من الزمن ! إنها وبالدقة إختلاف في الثقافات .
سيدي القارئ الكريم ، أنا هنا لا أغمز أو ألمز إلي شخص بعينه ، أو إلي إدارة حكومية معينة ، يقال في الأمثال : المساواة في الظلم عدالة ، والعتاب للجميع ولنفسي أولاً ، ومع الأسف إنها ثقافتنا التي تربينا عليها ، وإنصافاً لي ولقومي ، الثقافة التي تربي عليها معظم أبنائنا منذ نعومة أظفارهم ، وتعودنا أن نرى مثل تلك المشاهد تتكرر يومياً أمامنا .
لكن ! أمل التغيير والتطوير لم ولن ينقـطع والحمد لله ، حيث نعيش هذه الأيام أنتفاضة تعليمية تصحيحية لكل أبناء المجتمع ، وللجنسين معاً ، وفي عدة نشاطات ، ثقافية وسلوكية وأجتماعية ..
وشهادتي من أهلها ، أني أعيش التجربة شخصياً ، وبعيداً عن ذكر الأسماء وبراءة من التملق والتعلق، وبمبادرة نادراً ما تتكرر بمملكتنا الغالية ، فقد أقدم مسؤول رفيع المستوى وبرتبة وزير، وبشخصه ، بالتخاطب يومياً بوسيلة التواصل الإجتماعي الفيس بوك ، كي يسمع هموم الجمهور مباشرة ، وبدون وسائل أجراءات روتينية وتعطيلية وأنتظارية ، وبنظام سياسة الباب المفتوح ..
فأتمنى أن يكون الكل على قدر من المسؤولية ، وأن يتحمل التكليف المنوط به ، وأن يرى الله وإنسانيته أثناء تأدية عمله كما وجدنا الشرطي ( أبو شارب ) .