حديث المغتربين لكي لا تغترب أراوحنا (1)
طلب مني بعض الأحبة في البلاد أن أكتب مقالات في شأن أحوال المغتربين خارج الوطن، و بالرغم من أنني لست من فرسان الكتابة في هذا المجال؛ و كذلك المدة التي قضيتها في الغربة ليست كافية للإلمام الكافي بهذه المشكلات، إلا أنني قررت خوض هذه التجربة لعل أن ينتفع بها إخواني و أخواتي المغتربين، أو من هم في البلاد و ينون الاغتراب.
و لأن الحياة لا تخلو من إيجابيات و سلبيات؛ فمن الطبيعي أن يواجه المغتربين بعض المشاكل في الغربة، و هذه المشكلات و إن بدت في وهلتها الأولى كمشاكل أخلاقية عند بعض المراهقين؛ إلا أن هذه المشاكل الأخلاقية تجر شيئاً فشيء إلى مشاكل فكرية و من ثم عقائدية، ثم إلى موجة كبيرة من الأمور التي لا يحمد عقباها، و لربما أكون أقل قدرة من غيري في النقاش و التحليل في مثل هذه القضايا، إلا أنني أتمنى أن تكون مقالاتي هذه كوجبات خفيفة يمكن بناء رؤية عليها و الاستفادة من تلك الرؤية.
الاغتراب في روايات أهل البيت:
و للغربة شجون، أقول هذا من واقع تجربة ما زلت أعايشها، فرغم ما للغربة من تطلع و أمل و اكتشاف واستكشاف دائم، إلا أن فيها ما فيها أيضاً من مساوئ و مشاكل قد يمر بها العديد من المغتربين في الخارج، بالذات إذا لم يحسن تقييم ذاته، أو بالأصح لم يحسن ذويه تقييمه قبل أن يُذب به إلى عالم الاغتراب.
و ارتأيت قبل الولوج في الموضوع أن أعرض بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام) في شأن الغربة و المغتربين و أبدأها بقول أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث يقول: «ليس في الغربة عار إنما العار في الوطن الافتقار»،وقال عليه السلام: (الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة)، و يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق» و هذا لا يكون إلا بنية خالصة منا في أن يكون اغترابنا و هجرتنا لله خالصة، و أن تكون نياتنا حسنة مع ذاتنا و عقيدتنا، لننال تلك البركة و الأجر و الثواب العظيم حيث يقول تعالى: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (النحل-41).
يجب أن تكون المساعي لغاية سامية، في خدمة الإنسانية، و الدين الحنيف، و لا شك في أن الغربة لطلب العلم جهاد عظيم، لاسيما و إن رافق هذا الجهاد رسالة سامية و صورة لامعة يقدمها الفرد المسلم لتلك المجتمعات التي هاجر و اغترب عندها، و لاسيما أيضاً و أن المجتمعات الإيمانية في وطنه تتطلع لنجاحه و إنجازاته بعين الفخر ناظراً و متجهاً نحو المستقبل.
الغربة ... المعنى و المعنى الآخر:
نلاحظ أن كلمة (غربة) العربية تدل على معنى البعد "غريب، أي بعيد عن وطنه والجمع (غرباء) والأنثى (غريبة)، والغرباء هم الأباعد. واغترب فلان إذا تزوج إلى غير أقاربه.. وتدل كلمة (الغربة) على معنيين: الغربة المكانية، الغربة الاجتماعية أي الانفصال عن الآخرين.. وقد استخدمت كلمة (الغربة) في أكثر من سياق منها الديني والنفسي والاجتماعي.
ذاك كان معناها اللفظي كما يحب اللغويون ... و لكن بمعنى آخر كما أحب أنا .. فالغربة تعني الانتقال من عالم إلى عالم آخر، و من بيئة إلى بيئة أخرى، حيث يخوض فيها الإنسان امتحان صعب، مع ذاته و مبادئه و أخلاقياته و فكره و عقيدته، فإما أن يبقي العلاقة الحميمية مع ذاته الحقيقية و مجتمعه، أو ينفصل عن ماضيه و جذوره و بيئته التي ولد فيها، و ينجر نحو أهوائه و شهواته و ملذاته، فيشتري الوهم على الذات.
امتحان صعب يحتاج لعدة:
و لا أبالغ أبداً حين أصف الاغتراب بالامتحان الصعب، فالإنسان كتلة من لحم ودمّ، و مشاعر وأحاسيس وعواطف، يتأثر سلبا أو إيجابا بمجريات حياته، بالذات و أنه يخوض هذا الامتحان المصيري في مرحلة عمرية خطرة تكون هي انطلاقة لبداية تكوين شخصيته الحقيقية، كما أنه يخوضها في مجتمعات أكثر انفتاحا و حرية من تلك التي نعيشها في بلداننا أو نتصورها نحن عن تلك المجتمعات.
فالغربة إذا أو الاغتراب له تأثيرات ونتائج عديدة ومتنوّعة على الفرد، والأسرة، والمجتمع؛ نفسيّا وجسديّا وروحيّا وفكريّا، و لها نتائج سلبيّة ونتائج إيجابيّة. فإن طريق الغربة ليس معبد بالزهور، بل مليء بالأشواك التي يجب على المغترب أن يتجنبها، لاسيما وهو مقبل على وضع أشبه بالـ(الفوضى القيمية) التي يجب أن يواجهها، و مواجهتها أولاً و أخيراً تعتمد على ما أكتسبه من بيئته التي تربى و نمى عليها من صغره.
لهذا رسالتي من خلال مقالاتي التي سأكتبها في هذا الشأن لطرفين: الطرف الأول لآبائي و أمهاتي و أخواني و أخواتي في البلاد ممن ينون إرسال أبنائهم لبلاد الغربة أو ممن ينون الاغتراب أن يعدوا أنفسهم و أبنائهم لامتحان الغربة قبل رميهم في ميدان الغربة، فالامتحان يحتاج لعدة و تدريب و تمرين قبل خوضه لاسيما و أننا نصفه بالامتحان الصعب، و إن كنا نعتقد بأن العلم مهم و العلم في الغربة يكون، إلا أن الحفاظ على دين و قيم أبنائنا الدينية أكثر أهمية، و لكي نضمن الحفاظ على دين أبنائنا و أخواننا علينا أن نعدهم لشبهات و محن الاغتراب قبل دخولهم إليها .
الطرف الثاني هم أخواني المغتربين وضرورة وجود التجمعات الإيمانية بشكل منظم و ممنهج و حضاري، و أن يتعاونوا فيما بينهم في حل مشكلاتهم، و يحاولوا رفع الأسباب التي قد تنفر بعضهم من بعض.
أتمنى أن أوفق في إتمام هذه المقالات، و إيصال الفكرة، و أن ينفع الله بها الإسلام و المسلمين.