السيد محمد الشيرازي مشروع تربوي
التكوين التربوي والتعليمي للسيد الشيرازي
بداهة، إن «التربية والتعليم مصطلح يشير في معناه الواسع إلى الطرائق التي يكتسب بها الناس المهارات والمعارف ويتوصلون بها إلى الفهم الصحيح للدنيا ولأنفسهم.
والتربية والتعليم ليستا كلمتين مترادفتين، بل بينهما عموم وخصوص. فالتربية أشمل من التعليم الذي هو جزء من التربية.
وبينما يكون التعليم محدودًا بما يقدمه المعلم من معلومات ومهارات واتجاهات داخل الصف، فإن التربية تأخذ مكانها داخل الصف وخارجه ويقوم بها المعلم وغير المعلم. ولعلَّ أفضل طريقة لمناقشة مفهوم التربية والتعليم هي تقسيم أساليب التعليم هذه إلى ثلاثة أنواع: نظامي، وتلقائي، وغير رسمي».
وحين نقرأ التكوين التربوي والفكري للمرجع الديني السيد محمد الشيرازي [1347-1422هـ]، نلحظ أنه قد اقترب من ممارسة الأنواع الثلاثة من التعليم، المشار إليها سلفًا، وهو يتلّقى العلم، ويربي نفسه تربية أهلّته، لكي يتبوأ مكانته الرائدة في عالم المرجعية الدينية والزعامة الروحية. فقد تعلّم في الكتاتيب أولاً، قبل أن يتعلّم تعليمًا أقرب إلى التعليم النظامي في الحوزة العلمية؛ إذ يعتمد أسلوبها على نظام الحلقات، فقد يدرس المتعلِّم هنا، وقد يدرس هناك. والسيد الشيرازي، درس فيها على يد كبار الأساتذة، فقد ذكر أنه تتلمذ على يد أكثر من 100 أستاذ في مختلف المعارف والعلوم، كما تعلّم تعليمًا تلقائيًّا، وتعليمًا غير نظامي، من خلال حضوره مجالس العلماء برفقة والده المرجع الديني السيد مهدي الشيرازي (رحمه الله)، وتلقى المعارف أيضًا عبر المنبر الحسيني، وقد سجّل لنا هذه اللقطة في كتابه: «عشت في كربلاء»، قائلاً: كنت مولعًا بالحضور في المجالس الحسينية... ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن معدل المجالس التي كنت أحضرها كل سنة، يقرب من ألف مجلس...
ويؤكد إن هذه المجالس:
1- شحنته بمادة غزيرة متنوعة.
2- واطلع بواسطتها على الحياة العامة.
3- واتصل بواسطتها بمختلف أفراد المجتمع.
4- وهذا الاتصال -كما يقول- يزيد من ثقافة الإنسان ويعرفه كيف ينبغي أن يعيش.
وحين نرجع بذاكرة الزمن لطفولة السيد الشيرازي، الذي عاش تسعًا منها في النجف الأشرف، قبل أن ينتقل مع والده إلى كربلاء، وهو في التاسعة من عمره، سنبُهر حين نسمعه يقول: «وقد وُفِّقتُ في أيام طفولتي لأن أكون إمامًا للأطفال وذلك في الأيام التي كنت أذهب لتعلّم القراءة والكتابة، والقرآن والحديث في صحن الإمام الحسين (عليه السلام)».
ولا غرابة أن يؤم السيد الشيرازي الأطفال منذ حداثة سنه، فهو قد تربى على يد مرجعية روحانية فذّة، أخذت بيده خطوة خطوة، وكان يتبعها إتباع الفصيل أثر أمه، حتى وصل إلى ما وصل إليه من مكانة. ودعونا نستمع لأسلوب من أساليب والده في تربيته وتنشئته، يقول السيد الشيرازي: «كان والدي (رحمه الله) ينقل عن ذكريات صغره: أن والدته (رحمها الله) كانت تعتني بتربيته وتأديبه غاية الاعتناء وقد كانت هي من الصالحات القانتات وعلى إثر ذلك كان لا تفوتها نافلة الليل وتلاوة القرآن بالأسحار، وكانت إذا قامت لصلاة الليل والتهجد فيه أيقظته معها، واصطحبته إلى مصلاها وأقعدته إلى جنبها وكانت توصيه بالانتباه إليها وعدم النوم والغفلة».
وبلا شك فإن هذه القصص والتوجيهات التي يسمعها السيد الشيرازي من والده، هي أسلوب تربوي محبذ وممدوح، وهو ما يعرف بالتربية بالقدوة، لتكون سلوكًا يمارسه في حياته فيما بعد، «وقد ذكر بعض علماء النفس أن مخ الطفل من أول يوم ولادته، يسجل كل ما حوله من الأحداث، ويؤثر ذلك في لاوعيه، مما يعطيه لونًا في حال كبره».
وقد أشار السيد الشيرازي إلى توصية والده الجميلة له أثناء تنشئته، إذ كان ينصحه قائلاً: «كن بحيث إذا نشر عملك أمام الناس، لا يكون فيه ما يخجلك». ويكرر والده عليه النصيحة نفسها بطريقة تصاعدية، إذ يقول: «وقد كان والدي (رحمه الله) ينصحني بأن يكون باطني بحيث يُرى عندما أترآى للناس يوم القيامة أفضل مما كنت عليه في الدنيا».
التربية بالقصة عند السيد الشيرازي
وهذا الأسلوب واضح في كتاباته ومحاضراته، فإن السيد الشيرازي تأثر كثيرًا بأسلوب القرآن الكريم؛ لذا عمد لكتابة القِصّة الواقعيّة التي تختزل الأهداف والقيم التي يؤمن بها، ويسعى من أجل تحقيقها وتجسيدها في الأمة، ولم يقترب يومًا من كتابة القِصّة كفنٍّ أدبي خالص. ولا شك أنه هدف إلى إيجاد نوع من التسلية والمتعة للقارئ، حين كتابته للقِصّة، أو حين روايته لها؛ إلاّ أنه يضع على رأس هذه الأولويات تحقيق نقلة نوعية في حياته؛ فهو يتغيا إحداث عملية التغيير في أبعادها الحضارية المختلفة، فالسيد الشيرازي إنما يكتب من أجل استنهاض الأمة ورقيِّها، لعلمه بأن الكاتب الإسلامي يقوم «بأداء دور كبير في المجتمع الإسلامي، فهو أداة الوعي الديني والسياسي والثقافي في الأمة، وبه تناط مسؤولية تعبيد الطريق وإزالة العقبات والتراكمات التي تحول دون تقدّم الأمة».
إذنْ، فعندما يختار السيد الشيرازي الأسلوب القصصي في الكثير من كتاباته؛ فإنما يختار هذا الأسلوب؛ لعلمه أن للقِصّة تأثيرها الكبير في النفوس، إذ يرى أن «الثقافة تصنع المعاجز»، وإذا قلنا بأن القِصّة = ثقافة، فحق لنا القول بأن: القِصّة تصنع المعاجز!
أهداف السيد الشيرازي القصصية:
1- التربية بالقدوة: فهو يهدف إلى التعليم عبر القدوة والمحاكاة. فـ«الحياة -كما يرى- عِبر وقصص... قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾[يوسف:111]. وقال أمير المؤمنين علي : «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار»... فيلزم على الإنسان أن يعتبر بذلك.. لأن الحياة كما بيَّن الإمام تمضي بسرعة، قال : «إن الفرص تمرّ مرّ السحاب»... وكل هذه العبر والقصص وجميع ما يعمله الإنسان ستنشر في يوم القيامة، ليراها بنفسه».
والقارئ لقصص السيد الشيرازي يلحظ أنه يستخدم القِصّة كغرض من الأغراض التي تهدف إلى: تقريب المعاني والمفاهيم لأذهان الناس للعظة والعبرة. فسرد القِصّة القصيرة، قد يختصر في الكثير من الأحيان العديد من الجمل والفقرات التي يحتاجها المتكلم عادةً لتوضيح أفكاره.
2- التحقق والتجسيد: ويمكننا أن نُعبِّر عن ذلك بـ«الواقعية»، أي إن القصص التي يرويها لها علاقة بالواقع المعيش، أو بمتطلبات المرحلة -بعبارة أخرى-، فكثير من قصصه بعيدة عن المثاليات، بل هي أفكار قابلة للتحقق والتطبيق؛ لأنها تدخل ضمن حيِّز الفعل البشري.
3- الغائية: إذ إنها قصص تستهدف الدفع نحو فعل وترك آخر، فالسيد الشيرازي بوصفه أحد رجالات الإصلاح في العصر الحديث، عمِدَ لاستخدامها وسيلةً مؤثرةً لتعميم الفكر الإصلاحي، فنلحظ أنه -على سبيل المثال- ومن خلال عرضه للقصص الهادفة، عَمِل على تغيير الكثير من الأفكار الانهزامية في الأمة، فهو يكتب قصص الصمود، ليربي أبناء الأمة على الصمود، ويكتب قصص الإيثار ليربي أبناء الأمة على الإيثار، ويكتب قصص التقوى، ليربي أبناء الأمة على التقوى، ويكتب قصص الحوار، ليربي أبناء الأمة على الحوار، وهكذا... وكأني به يلحظ أثناء كتابته قول الحق -سبحانه وتعالى-: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾[يوسف:3]. فهو، تمشيًّا مع مراد الآية الكريمة، يقُصُّ علينا أحسن القصص التي يرى أنها تحقق الأهداف الغائية للدين.
من الفكر التربوي عند السيد الشيرازي
تحت هذا العنوان نفرد مجموعة عناوين، نختزل فيها شيئًا من أفكار السيد الشيرازي التربوية، وهي على النحو التالي:
لنبدأ من أنفسنا:
لا يخفى أن السيد الشيرازي سعى، وهو يؤسِّس مشروعه التربوي في الأمة بجديَّة؛ ليعمل على بعث مجتمع يتقدّم نحو الكمال، لذا وضع الأسس التي من شأنها تحقيق هذا المطلب. فبناء الأمة الواحدة المقتدرة التي طالما دعا لها في خطابه الفكري، بحاجة لمقومات عدَّة، ولعلّ أهمها، بناء إنسان هذه الأمة؛ بناءً يُعنى بالروح والعقل معًا.
ويشترط السيد الشيرازي أن نبدأ من أنفسنا؛ فالتجديد «يبدأ من نفس الإنسان، فإنه إذا لم يصلح الإنسان نفسه لا يمكنه إصلاح غيره من بني نوعه أو المحيط المتعلق به، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والطبيعي وغيرها، وقد قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[الرعد:11]. فإن أول التغيير إلى الصلاح أو الفساد هو الإنسان».
وفي نظر السيد الشيرازي «إن الإنسان الصحيح:
1- ينفع نفسه، ويكون في بهجة وفرح وسرور.
2- وينفع المجتمع الإنساني بعمله وفكره وتوجيهه.
3- وينفع الحياة -بصورة عامة- في إصلاحها وبنائها».
ويشترط تبعًا لذلك توفر صفات في العاملين الذين يريدون إحداث عملية التغيير في الأمة، فالإنسان، كما هو بَيِّنٌّ «روح ومادة، فالتفريط في أحدهما له نتيجة معكوسة على الجانب الآخر، كما أن الطائرة التي تفقد أحد جناحيها لا يمكنها أن تطير أو تهبط بسلام... وقد شعر العقلاء في المجتمع الغربي بهذه الحقيقة كما -تجد في كتبهم- وهم يلتمسون المخرج، ولا مخرج إلا بالرجوع إلى الدين الصحيح الذي يزرع في الإنسان خوف الله سبحانه، وإلى الفطرة الإنسانية الرشيدة... والغربيون اهتموا بـ(ما بقوم) دون ما (بأنفسهم)». أي ما يرتبط بالاحتياجات المادية والحياتية والرفاهية! وهنا مكمن الخلل والنقص الذي يحذر منه السيد الشيرازي. فهو يرى أن «العامل الأقوى الذي يحصّن الناس من الانزلاق في متاهات المفاسد هو الدين، لأنّه يؤجج في الإنسان مشاعر الخوف من الله ومن اليوم الآخر، وهذا ما يمنحه الإسلام للمؤمنين».
لذا يميل السيد الشيرازي إلى أن إصلاح النفس نقطة انطلاق، ويرى إن علاج كل شيء يبدأ «بإصلاح النفس، والاستعانة بالله سبحانه، لذا نجد في الآثار الواردة سيلاً من التوجيه إلى هذه الجهة المركزية»، من قبيل حديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»، وقوله (صلى الله عليه وآله): «إن الشديد ليس من غلب الناس، ولكن الشديد من غلب نفسه». لذا يقول السيد الشيرازي: «ومما يلزم على الممارسين للتغير هو التضرع إلى الله سبحانه، ودوام الذكر بقلوبهم وألسنتهم في كل حال، في المدرسة والشارع والمسجد والسوق والبيت والمعمل وفي كل مكان، كذلك التوجه إليه سبحانه بكثرة قراءة القرآن والاستهداء به والدعاء».
كما أنه يركِّز في مشروعه من أجل بناء الإنسان على منهجيتي: التزكية والتعليم، أو التعليم والتزكية، وهي منهجية القرآن، «لذا نرى القرآن الحكيم تارة يقدم «يزكيهم» على «يعلّمهم» وأخرى بالعكس».
يقول سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾[الجمعة:2].
ويقول عزَّ من قائل: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة:129﴾.
لذا لا غرابة حين نجد أن (الكتاب) يأخذ دورًا محوريًا عند السيد الشيرازي وهو يكدح كدحًا في تربية الأمة. فالكتاب -بلا ريب- كفيل ببناء الأمة واستنهاضها، إذ إننا نقطع بأن الكتاب هو المتكأ الأهم لصنع وتعميق الأسس الثابتة والرصينة؛ لتحقيق الانطلاقة الرشيدة في واقعنا، وهو الوسيلة التي تجلّي الفلسفة الصحيحة لهذه الغاية.
وبلا ريب، فإن العلم يناله من يتمسّك بالكتاب، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾[الأعراف: 170]. فالقرآن يشيد بمن يُمسِّكون به، ولفظ «يُمسِّكون» من التكرير والتكثير، كما يشير المفسرون، أي العاملين وفق تعاليمه وأحكامه. وهؤلاء بطبيعة الحال، هم الذين يقيمون الصلاة، وهي -الصلاة- عنوان جامع لكل الفضائل والأعمال الصالحة؛ من تأسيس لمشاريع إنسانية، أو علمية، أو ثقافية...إلخ، ومن يسير في هذا الخط، فهو من الصالحين المصلحين، الذين لا تضيع جهودهم عند الله -سبحانه وتعالى-.
والسيد الشيرازي خير مصداقٍ للرجال الصالحين المصلحين، الذين سعوا لإصلاح الأمة بفكرهم وجهادهم، للوصول بالمجتمع إلى شاطئ السلام، يقول السيد إن «المجتمع المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة هو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة، كالتعاون، والعلم، والفضيلة والتقوى، وحب الناس، والإنسانية، وابتغاء الخير، والحرية، ونحوها... ومثل هذا المجتمع سيبقى ينمو ويزدهر ويتوسع إلى ما شاء الله».
ولقد أجاد السيد الشيرازي حين شبَّه الإسلام بالإنسان الحي الذي يُلحد، وهو يصيح أنا حيٌّ فأنقذوني ولا تقبروني. لذا -والقول له-: يجب على كل مسلم أن يدفع هذا الظلم الذي وقع عن عمد وبغير عمد، وينجي هذا المظلوم من براثن مستغليه وجاهليه. وبدء الدفاع: القلم واللسان. ولتحقيق هذه الرغبة، وضع السيد الشيرازي في كتابه: «السبيل إلى إنهاض المسلمين»، عنوانًا تحريضيًا بعنوان: «لنثقف المسلمين قبل أن يثقفهم غيرنا»، باعتبار أنه يرى أن التثقيف سبب التغيير إلى الأحسن أو إلى الأسوأ.. وقد سجّل في ذلك مفارقة يقول فيها: «وقد أغفل المسلمون أهمية التثقيف وتناسوه في الوقت الذي أدرك الغربيون والشرقيون أهميته وراحوا يعملون بكل طاقتهم في هذا السبيل».
والجميل في تجربة السيد الشيرازي أنه لم يكتفِ بتشخيص الواقع وإنما بذل ما في وسعه من أجل الارتقاء بالأمة عبر بث الوعي فيها، وقد حقق نجاحات متعددة في هذا السبيل على صعيد تأسيسه لمختلف المؤسسات التعليمية والتربوية؛ وعبر مؤلفاته التي ناهزت الألف كتاب، وطلابه الذين انتشروا في الآفاق، ومؤسساته التي أسسها في معظم الدول التي وصلت إليها يده، لكي تتبوأ الأمة الإسلامية، مكانة تليق بها بين الأمم.
«ولك أن تعجب لرجل مغترب في الكويت [وبعدها إيران] يشيد سبعمائة مؤسسة خيرية ودينية واجتماعية في العالم ما بين مكتب لإدارة الشؤون الدينية، ومسجد لأداء الصلاة... وميتم للفقراء والمحرومين ممن نكبهم الدهر بآبائهم فاحتضنهم، ومكتبة عامة ترعى الجيل، ونادٍ ترفيهي مشروع، ومدرسة للبنين والبنات في أكثر من إقليم من أقاليم الدنيا، وهي تلقن الأبناء مبادئ الإسلام إلى جنب التربية، ومستوصف للمرضى، ومستشفى للعلاج المجاني... وسوى ذلك من المشاريع الكبرى».
ونظرًا لأن الأمة تعيش تراجعًا في مختلف الجوانب، وباعتبار أن مسؤولية الإصلاح تقع على كاهل الجميع، فقد دعا السيد الشيرازي لتكوين وتشكيل (التيار الإصلاحي)، وعدّه مطلبًا للارتقاء بالأمة.. وحسب تشخيصه، فإن التيار الإصلاحي العام بحاجة إلى العديد من المنظمات بمختلف مسمياتها، والكثير من الأحزاب الحرة، كما هو بحاجة إلى مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، والمرئية وما أشبه، كالمنابر والدروس والمحاضرات، والجرائد والمجلات وحتى النشرات الجدارية، وكذلك الراديو والتلفزيون والانترنيت والكتب واللافتات الصغيرة والكبيرة وما أشبه ذلك.
وبهذه الوسائل يمكن تبليغ الإسلام إلى الناس، المسلمين وغير المسلمين منهم، وإنما قلنا غير المسلمين، -والقول له- لأنهم عرفوا عن الإسلام غير ما هو عليه، وذلك بسبب الدعايات المختلفة، فزعموا أنه دين القتل وسفك الدماء وهتك الحرمات ومصادرة الأموال كما كان يفعله الأمويون والعباسيون والعثمانيون ومن أشبههم، وهم بعيدون كل البعد عن الإسلام وتعاليمه السمحة.
هدم ثم بناء:
جانب الهدم والبناء، مرتكز من مرتكزات المشروع التربوي للسيد الشيرازي، فهو يؤكد على طرح البديل الأفضل دائمًا، بل يتدارك الأمر قبل استفحاله: ولعلَّ المتتبع للإصدارات المتتالية لسماحته، يلحظ عنايته الفائقة وتحسسه المستمرين للمشاكل والأزمات التي تواجه الأمة الإسلامية، فقبل أن تنتشر الصحون الفضائية في الدول العربية والإسلامية انتشار النار في الهشيم؛ بادر السيد الشيرازي بكتابة كرَّاسه المُتعقل: «الأفلام المفسدة في الأقمار الصناعية: وقايةً وعلاجًا»، وعندما وقَّع بعض العرب اتفاقية الصلح بينهم وبين الكيان الصهيوني الغاصب في يوم: 20 جمادى الأولى سنة 1415هـ، بادر سماحته في نفس اليوم بكتابة كرَّاسه المعنون بـ«هل سيبقى الصلح بين العرب وإسرائيل؟»، وهو تبعًا لذلك راح يُسطر الكتاب تلو الكتاب، والكرَّاس تلو الكرَّاس؛ ليسهم بكتاباته المتنوعة والغزيرة؛ للعمل على إنقاذ المسلمين من واقع البؤس والشقاء؛ وليقدَّم من خلال أطروحاته الواعية العلاج الملائم للمشاكل التي تعصف بالمجتمع الإسلامي.
بدأ من حيث انتهى الآخرون:
كان السيد الشيرازي يستفيد من تجارب الآخرين إلى حدٍّ بعيد، والمربي الناجح بحاجةٍ إلى أن يعمل بهذا المبدأ، وهو يمارس عملية التربية، عبر سؤال واستشارة أصحاب التجارب والمختصِّين ومراقبتهم، بدلاً من أن يرتجل؛ طرقًا قد تَضُّر أكثر مما تُصلِح، فلا مجال في التربية للارتجال أو التهوُّر!
ونلحظ هذا المعنى عند السيد الشيرازي جليًّا من خلال القصص والتجارب الكثيرة التي سجلّها في العديد من كتبه. وللتمثيل، أسجِّل هذه الفكرة، فقد وجدت البعض ممن كتب عن مسألة اهتمامه بالوقت، لدرجة أنه يحرص حتى على الجزء من الثانية في حياته! وحين نقترب من عالمه نكتشف أنه قد اكتسب هذه الأمور وأصبحت من مفردات حياته؛ لأنه عاشها تجربةً حيَّة أولاً، ودعونا نستمع إليه وهو يحكي المشهد التالي، يقول سماحته: «ولا أنسى أيام كنت بصحبة والدي (ره) وقد كان بصحبة المرحوم السيد حسين القمي (رحمه الله) -الرجل العالم والمجاهد المشهور- وكان بصحبته أيضًا آية الله العظمى السيد الميلاني (رحمه الله) وغيره، وكنا قد ركبنا السيارة من كربلاء إلى سامراء وفي أثناء الطريق عطبت السيارة، فسأل المرحوم القمي السائق عن المدة التي يستغرقها إصلاح السيارة؟ قال السائق: عشر دقائق، فتوجه القمي (رحمه الله) إلى خادمه وقال له: افرش في الصحراء وأنزل الكتب، فنزل أصحابه: والدي والسيد الميلاني وغيرهما، فقال لهم: نتباحث لئلا يذهب وقتنا اعتباطًا فأخذوا في المباحثة حتى تهيأت السيارة، فركبنا جميعًا وتوجهنا إلى سامراء».
وقد أحسن السيد الشيرازي حين سجَّل تجاربه في عالم المرجعية عام 1391هـ، في كتابه المهم: «المرجعية الإسلامية.. رؤى في الأساليب والأهداف»، إذ أشار فيه إلى شرف المساهمة والعمل في ظل المرجعية الدينية التي ابتدأت بوفاة العلمين الكبيرين السيّد أبو الحسن الأصفاني، والحاج السيد حسين القمي، حيث انتهت المرجعية إلى والده السيد مهدي الشيرازي. ويؤكد سماحته أن هذه المعاشرة الدؤوبة لأرباب الحل والعقد قد أوجدت لديه مخزونًا من التجارب والخبرات في مضمار المرجعية، لذا فكّر في كتابتها، لتقديم بعض الفائدة لمن يخوض هذا العمل المقدّس، ولتعميم هذه المعلومات لمن يريد الاطِّلاع عليها، باعتبارها أصبحت جزءًا من التاريخ.
لكل مقام مقال:
السيد الشيرازي خاطب مختلف الشرائح الاجتماعية والعلمية، فقد كتب كتبًا تخاطب الجميع، بدءًا من المراحل التعليمية الأولى، حتى مرحلة الدراسات العليا في البحث الخارج، بل كتب كتبًا تخاطب الأطفال واليافعين، ككتاب: «المسلم»، وكتاب: «هل تعرف الصلاة؟»، وغيرهما.. فمثلاً عن كتابه: «كيف انتشر الإسلام؟»، يقول: إنه «محاولة بسيطة بدائية، جدُّ متواضعة لإلقاء الضوء على بعض تاريخ انتشار الإسلام، بقدر إفهام طلاب السادس الابتدائية، من مدارس حفاظ القرآن الحكيم، في كربلاء المقدسة». لذا قد نظلم السيد حين نتغافل عن قراءة المقدمة، ونهمُّ في قراءة الكتاب، وكأنه مقدّم لفئة عمرية متقدمة أو نخبوية!
ولأن السيد الشيرازي مهمومٌ بتثقيف جمهور الأمة، فقد كتب كثيرًا من كتبه ليخاطب بها الجمهور العام.. حتى إنه وضع تفسيرًا للقرآن، وهو تفسير: «تقريب القرآن إلى الأذهان»، وقد ألقاه أولاً بأسلوب المحاضرات العامة في الكويت، قبل أن يصدر مطبوعًا. وهكذا نلحظ بعض مؤلفاته المهمة التي كتبها لاستنهاض الأمة، مثل كتابه: «السبيل إلى إنهاض المسلمين»، وغيره، فقد ألقاه بشكل محاضرات للنخب الحركية العاملة في الأمة، قبل أن يأخذ طريقه للنشر، ويقول مُبيِّنًا فلسفته من كتابة بعض هذه الكتب:
«ثم أنه كما يكون بناء مؤسسة أو إدارة أو مدرسة أو ما شابه ذلك لحاجة إلى ثلاثة أشياء: الأول: العلم بالبناء. الثاني: الخارطة المهيأة، من أجل البناء. الثالث: التطبيق العملي الخارجي. فكذلك بناء الأمة بحاجة إلى هذه الأمور الثلاثة، وقد كتبنا كتاب (الصياغة) باعتبار الأمر الأول، فإن فيه العلم بالبناء، وكتبنا (السبيل) تمهيدًا للأمر الثاني وإراءة خارطة لكيفية بناء العالم الإسلامي الكبير، أما التطبيق العملي الخارجي فقد كتبنا لأجله (ممارسة التغيير)، فهذا الكتاب مرقاة ثالثة في هذا السلم ومحاولة للتعرف على طرق ممارسة التغيير للوصول إلى (حكومة ألف وخمسمائة مليون مسلم)».
ومن الطريف في كتابات سماحته أنه كتب كتابًا بعنوان: «المنصورية في النحو والصرف»، وقد اشتق عنوانه من اسم زوجه ورفيقة دربه (منصورة)؛ ليعلمها النحو والصرف، وهو كتاب يقع في 224 صفحة!
وقد صنّف الدكتور محمد حسين الصغير مؤلفات السيد الشيرازي إلى ثلاثة مجاميع رئيسة، هي:
1- المادة التخصصية في التشريع، وتشمل على علم الحديث والسنّة والفقه والأصول.
2- كتب الاحتجاج والمناظرات والمقالات الإسلامية في الدفاع عن ثوابت الإسلام.
3- كتب الثقافة الإسلامية: وهي مجموعة كبرى من المؤلفات الهادفة روعي في تأليفها التيسير والتبسيط ووضوح العبارة وحداثة الأسلوب، ليقبل على الإفادة منها الشباب المتحفز والنشء الجديد، فيها عمق الأفكار ومرونة التعبير، وكان هذا العمل رائدًا دون شك، ومفجرًا لمنهاج اجتماعي فذّ.
التنويع والتغيير أثناء التدريس:
السيد الشيرازي عمل بفكرة عدم الإطالة في التدريس، وهو أسلوب تربوي؛ يُتّخَذ لكيلا يشعر المتعلِّم بالملل والسأم، باعتبار أن «المدرس الجيد هو الذي يمهد للطلاب السبيل لفهم أكثر الكتب تعقيدًا وصعوبة. -كما يشير إلى هذه المسألة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، وهو أحد تلامذة السيد الشيرازي، ويضيف قائلاً:- وفي هذا المجال أنقل هنا إحدى تجاربي الشخصية عندما كنت أدرس مع مجموعة من الطلبة كتاب (كفاية الأصول) الذي كان أكثر الكتب صعوبة، وقد كنا ندرسه عند سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي...
وكنا نذهب عنده في زحمة ما يشغله من الأعمال، فنأخذ من وقته نصف ساعة ليدرسنا الكتاب، فكان السيد يدرسنا خلال ربع ساعة، وفي الربع الثاني يحدثنا عن السياسة وقضايا أخرى.
وقد كانت الدقائق الخمسة عشرة التي كان يدرسنا فيها السيد... تعادل على الأقل ساعة مما يدرسه الآخرون مضافًا إلى ذلك عدم إحساسنا بالملل، فقد كان يكفي أن نجلس ثم يشرح لنا الموضوع بأسلوب مبسط للغاية، فيحل ألغاز الكتاب وغوامضه حتى تنكشف لنا، وكان من ميزاته أيضًا أنه يتكلم بسرعة خلافًا لبعض المدرسين الذين اعتادوا أن يذهبوا إلى زاوية الصف ليفكروا قليلاً».
المواءمة بين الأقوال والأفعال:
بداهة، إن القارئ لتجربة السيد الشيرازي التربوية يلحظ أنه قد قرن الأقوال بالأفعال، في معظم أطروحاته، لذا يقول سماحته: لا يكفي أن يقول الإنسان للناس، كونوا كذا وكذا، أو أن يكتب في كتبه عن حسن منهجه، ثم يكون عمله خلاف ذلك، فإن الإنسان يقاس قوله بعمله، ولذا ورد في الحديث: «كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم».
أجل لقد «كان الفقيد آية في الأخلاق، ولا أستبعد -كما يقول غالب الشابندر- أن تكون نظرياته في الفقه والسياسة والعمل السياسي والاجتماع والتاريخ متأثرة بسلوكه الأخلاقي الجميل، وقد أثبتت الدارسات الحديثة إن الفكر لا ينفصل أبدًا عن مجمل السلوك الأخلاقي للشخص».
وعلى ضوء ذلك فحين قال السيد الشيرازي: يلزم تعميم القراءة والكتابة لتشمل كل المسلمين: الرجال، والنساء، والصغار، والكبار. تجده يقرن ذلك بالتطبيق العملي. فيقول في موقع آخر: «عندما كنا في كربلاء المقدسة فتحنا مدارس بمساعدة أهل الخير والبر للأطفال لأجل حفظ القرآن الحكيم وتعليم القراءة والكتابة والعلوم الإسلامية والعلوم الحديثة، وقد كانت تحوي زهاء ثلاثة آلاف طالب وطالبة». وعمد السيد الشيرازي أيضًا، مع تأسيسه لمدارس تحفيظ القرآن الكريم هذه، إلى أن يحفظ القرآن الكريم أولاً؛ قبل أن يدعو الملتحقين لحفظه! ليكون صادقًا مع نفسه في دعواه.
وقد التفت الدكتور محسن القزويني إلى ما قررناه قائلاً: «إذ ليس من السهل أن يجد إنسان هذا العصر فرصة لامتلاك الفضاء الفكري والاجتماعي الذي يستطيع من خلاله أن يعرج إلى الكمالات الشخصية الإنسانية في الفكر والممارسة بحيث يصبح فكره هو عمله، وعمله هو فكره. والسيد الشيرازي من النوادر الذين امتلكوا هذا الفضاء وتلك الخصيصة الفكرية التي اكتسبها من خلال رياضة فكرية وروحية جعلت منه إنسانًا منتظمًا في أجزائه وأبعاده. فتجمعت أفكاره في منظومة متجانسة الأبعاد والأجزاء».
وعندما يرصد السيد الشيرازي -على سبيل المثال- خمسة مقومات ينبغي أن يلتزم بها رجل الدين -بعد تسلحه بالتقوى-، وهي:
1- التأليف.
2- المنبر.
3- التدريس (سائر العلوم لا المتعارف منها).
4- المحراب.
5- التأسيس.
مضافًا إلى أمر آخر، هو من أهم الأمور لرجل الدين، ألا وهو «الاهتمام بالمعنويات والآخرة، والإعراض عن الماديات».
وجدنا أن السيد الشيرازي قد التزم كل هذه المقومات، وسنشير لبعضها مقتنصين ذلك، مما كتبه في كتابه: «عشت في كربلاء» التي خرج منها مضطرًا عام 1391هـ.
عن التأليف يقول: «وقد وفُقّت مدة إقامتي في كربلاء المقدسة، أن أؤلف ما يقارب الثلاثمائة كتاب، [كان عمره حين خرج من كربلاء 44 عامًا] بين كبير يقع في خمسمائة صفحة، وبين صغير يقع في صفحات، وطبع منها إلى الآن أكثر من مائة وعشرين كتابًا، ترجم بعضها إلى عدة لغات وهذا الأمر أحسبه منحة من الإمام الحسين (عليه السلام) ولطفًا منه بالنسبة إليّ».
كما أنه كان يقيم صلاة الجماعة في الصحن الحسيني الشريف في أواخر حياة والده (ت: 1380هـ)، وقبل ذلك درّس (بحث الخارج)، فدرّس الفقه صباحًا، والأصول عصرًا، وكان يعيد أحيانًا الفقه عصرًا.
وكانت باكورة أعمال السيد الشيرازي في حقل الخدمة العامة، تأسيسه لمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الأهلية في كربلاء، وكانت مجانية لكل من يرغب الالتحاق بها. وأسس أيضًا أول مكتبة أهلية عامة في كربلاء، تحت مسمى المكتبة الجعفرية. وأسس مجلة (أجوبة المسائل الإسلامية)، لتجيب عن كل الأسئلة الإسلامية التي توجه إليها. وعن إسهاماته في النشر والتثقيف، يقول: «وكانت في كربلاء المقدسة حركة ثقافية... هي حركة نشر الكتب المجانية، وقد كنت بنفسي أدير هذه المؤسسة، مما يصلني من التبرعات والحقوق، وهذه المؤسسة تمكنت في ظرف عشر سنوات تقريبًا، أن تنشر قرابة خمسة ملايين كتاب في شتى العلوم ومختلف المجالات».
وعن الوضع الثقافي والأدبي السائد في العراق حينذاك، يؤكد الدكتور محمد حسين الصغير إن بيئة العراق بعامة بيئة شعرية، وكان الميل إلى الكتابة والنثر متضائلاً إلاّ في حدود الإعلام والصحافة؛ لذلك تبنى السيد الشيرازي الأفكار الجديدة الداعية إلى خوض ميادين التأليف والنشر، فأسس في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين سلسلة سمَّاها: «منابع الثقافة الإسلامية»، لتزود المكتبة العربية بكتاب متوسط الحجم في مطلع كلّ شهر، واستمر هذا الإنتاج الجديد عشر سنوات.
أما عن تجربته في المنبر فيكفي أن نقرأ مقدمة كتابه (تجارب في المنبر) الذي أنهاه في 10 محرم 1387هـ، يقول فيه: «فهذه (تجاربي في المنبر)، فقد اعتدت منذ عشر سنوات أن ألقي من فوق المنبر توجيهات حول الإسلام -بشكل محاضرات- على طلبة العلوم الدينية، وطلاب العلوم الجديدة، والكسبة، كل أسبوع مرتين، وقد أفادتني هذه التجارب عدة نتائج أسجلها في هذا الكراس، ولعل إتباعها يوجب نجاح التبليغ والإرشاد لتكون تبصرة لمن يبدأ في رقي المنابر».
ولا نريد أن نسهب كثيرًا لتبيين مواءمة السيد الشيرازي بين أقواله وأفعاله، ولذا نكتفي بالإشارة إلى أنه قد قام بأعباء الحوزة العلمية في كربلاء وغيرها من مدن العراق والعالم الإسلامي، إضافة إلى أنه خاض «المعارك السياسية، بقصد التقويم والإرشاد، والإصلاح، والإيقاظ»، وكان يتصل بالمسؤولين الكبار مباشرة، بواسطة وفود أو برقيات أو رسائل، سواءً في ذلك مسؤولو العراق أو غيرهم.
السيد الشيرازي والتربية على النقد:
حين يقول السيد الشيرازي: «إن أفضل علامة للبلاد الكابتة للحريّة من البلاد المتحررة، هي نقد السلطة من القاعدة إلى القمة فهي بلاد الحرية، وإلا فهي بلاد الكبت». تجده يقبل النقد وإن طاله شرره، باعتباره مرجعًا مسؤولاً، وفي ذلك يقول: «ليس هناك من لا يخطئ، إلاّ المعصوم عليه السلام، فالبشر موصوفٌ بالخطأ، وحتى لو تسامى الإنسان في الملكات الرفيعة وفي الأخلاق السامية، فإنه عرضة للخطأ. فكان لابدّ للمرجع أن يصغي بنفسه إلى جميع ما يوجه إليه من النقد، سواءً كان هذا النقد يستهدفه أو يستهدف جهازه من الوكلاء والخطباء والمؤلفين.. فالإصغاء المستمر إلى النقد، ومحاولة تفادي بعض الأخطاء التي يمكن تفاديها، يوجب إصلاح المرجع وإصلاح جهازه».
ويرى السيّد أن تجميد النقاش يوجب تجميد الفكر؛ لأن الفكر رياضة عقلية ملازمة للرياضة العملية، فإن من لا يعمل لا يفكر، ومن لا يفكر لا يعمل، وقد ثبت علميًّا أن كل واحد من الروح والجسد يؤثر في الآخر. وبعبارة واضحة، يرى السيد الشيرازي أن الاستبداد مفسد لكل شيء!
ولا غرو إن من يطرح أفكارًا بهذه الشفافية؛ فإنه يقبل أن توجه له سهام النقد الموضوعية. لذا أسجل تحفظي هنا على توصيف السيد الشيرازي المبالغ فيه حيال نشر كتب الدكتور علي الوردي، حين قال وهو يتحدث عن طرق المسيحيين والتوجهات غير الإسلامية في بث أفكارهم، إنهم ينشرون كتب التحلل والكتب المشيدة بالغرب والمهينة للإسلام والمسلمين تحت مختلف الشعارات والأسماء، أمثال كتاب: (خوارق اللاشعور) و(وعاظ السلاطين) وما أشبه.
وهذا الكلام من السيد الشيرازي في الحقيقة، يمثل مفارقة غير واضحة في طرح سماحته، بل هي تتعارض مع فكرة الانفتاح التي عُرف بها حتى لحظاته الأخيرة! ففي آخر محاضرة له، وبعد أن أوصى النساء بالخطابة والعمل والتأليف، قال لهن: فالنساء من ساير الأديان يكتبن وتصل كتبهن حتى إلى قم، وأنا غالبًا ما أقرأ كتبهن. فمثلاً هناك امرأة مسيحية في الغرب واسمها (أغاثا كريستي) ألّفت 114 كتابًا، وأنا شخصيًّا طلبت بعض كتبها وقرأتها. فهل يوجد انفتاح كهذا؟ حين تقرأ مرجعية روحية كتبًا روائية بوليسية! من باب: خذوا الحكمة من أيِّ وعاء خرجت.
الحق مع الآخرين أحيانًا!
وهذه حقيقة بديهية، يقبلها العقلاء، لذا يؤكد السيد الشيرازي على ضرورة «تربية الناس تربية نفسية تريهم أن الحق للآخرين كما أن الحق لأنفسهم، وهذا أمر قد يطول زمانًا وقد يقصر؛ إلا أنه ضمان سلامة المجتمع».
ويقول سماحته: «ويجب على الإنسان المتحاور أن يخرج من ذهنه المسبقات فلا يزعم إن كلّ الحق معه، وعدوّه على باطل تمامًا.. من هنا دأب الأنبياء والأئمة عليهم السلام والعلماء على فتح باب الحوار مع كل الأطراف، وفي بحار الأنوار -باب الاحتجاجات- يجد الإنسان الشيء الكثير من هذه الحوارات البنّاءَة التي كان يديرها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) مع أعدائهم».
ويؤكد سماحته أن الوحدة لا تعني أن ترفع جماعة يدها عن معتقدها، أو لا تستعد للدفاع عنها، بل معناها أن يكون المسلمون صفًا واحدًا أمام الشرق والغرب، وتطبيق المتفق عليه في الإسلام.
القطرات والذرّات:
ومن الطريف أن السيد الشيرازي قد كتب كتابًا بهذا العنوان؛ ليؤكد فكرة تربوية، حريٌّ أن يلتفت إليها العاملون في قاطرة الإصلاح، وهي «أن الأمور الكبيرة إنما تتكون من الصَّغائر.. كالبحر المتكوّن من قطرات الماء، أو الصحراء المتكونة من الذرات وحبّات الرمال».
ونجد السيد الشيرازي يُطَبِّقُ الفكرة نفسها على مسألة الرأي العام، فيقول: «إن الرأي العام يتكون من ذرّات صغيرة، وتتجمّع هذه الذرّات لتصبح سيلاً جارفًا، فلا بدّ ألاَّ ييأس العاملون في حقل الرأي العام بل عليهم ألاَّ يستعجلوا في قطف الثمار، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًا يره ﴾[الزلزلة:7-8].
كما أن السيد الشيرازي في مشروعه التربوي -بناءً على قاعدة القطرات والذرات- يدفع الإنسان لكي يعمل بإخلاص وإتقان، وإن كان عمله عملاً صغيرًا، ويرفض ما يقوله بعض الناس أن اللازم أن يعمل الإنسان إما عملاً كبيرًا أو يترك -كما أصبحت عادة كثير من الناس وحتى بعض العاملين- فهذا التفكير بنظره غير صحيح، فإنهم بقولهم: (أو يترك) أخّروا المسلمين كافة، لأن الحياة ذرات وقطرات.
ويحثّنا السيد الشيرازي لكي نطرد كلمة (مستحيل) من قاموس حياتنا؛ لنتبوأ موقع السيادة في العالم، حين نتخلص من التفكير السلبي بأننا غير مؤهلين لذلك.
وخير مثال عمليٍّ قدّمه السيد الشيرازي لنا ليؤكد من خلاله جدوائية قاعدة (القطرات والذرّات)، هو موسوعته الفقهية الشهيرة التي ناهزت 160 مجلدًا، فقد كتبها في حدود خمسين عامًا، ليعطينا درسًا بليغًا في هذا الشأن! فضلاً عن مجموع كتبه التي تعدّت الألف كتاب.
وهذا لعمري درسٌ يحتاج منّا لتأمل فيما قدّمناه، وما سنقدّمه من عطاء في مختلف الجوانب، وهو كفيل بأن يزيل عنّا حالة الكسل والخمول.
الثقة بالنفس وإزالة العقبات النفسية:
طالما دعا السيد الشيرازي -في كتبه ومحاضرات وجلساته- الإنسان لكي يعمل على إزالة العقبات النفسية، من قبيل: الجبن والاستسلام، فهي تمنعه من العمل، وطالبه بأن يربي نفسه على الشجاعة والإقدام، حتى يكون بمستوى خوض الصراع لأجل الإنقاذ. وأكد على أن تنمية المواهب، والتربية الشخصية، وصقل النفس، ضرورات لا بد منها لتحقيق الانتصار.
كما أكد على أهمية الثقة بالنفس، إذ يراها «عنوان كل تقدم.. فمن لا يثق بنفسه لا يرى في نفسه الاستعداد للعمل، فهو إذن ضعفُ القابلية للتقدّم... وكما في الفرد تنطبق هذه القاعدة على المجتمع أيضًا، فالجماعة التي تثق بنفسها هي القادرة على إنجاز العمل».
لذا يدعونا لممارسة الإيحاء النفسي، لتعزيز الثقة بالنفس، إذ يرى أن له تأثيرًا «بالغ في تغيير العادات حتى أن علماء النفس قالوا: بأن الإيحاء النفسي يمكن أن يغير الجبان شجاعًا والبخيل كريمًا والمحجم مقدامًا وسيئ الملكات حسنها، إلى غيرها».
ولبعث الهمم في نفوس العاملين، إيماناً من السيد الشيرازي بأن «على المرء أن يسعى بمقدار جهده، وليس عليه أن يكون موفقًا» -كما قال أحد الشعراء-، تراه يقول: «يجب أن يعلم الإنسان، أن ليس كل أعماله موفقة، فالعامل يعمل ولو لنجاح عشرة في المائة، بينما السلبي لا يعمل إلا إذا علم بالنجاح مائة في المائة، ولذا يربح العامل -غالبًا- أكثر من خمسين في المائة، بينما السلبي لا يربح حتى الواحد في المائة، إذ الربح إنما يأتي من العمل لا من السلب والترك».
الهمة العالية:
يشترط السيد الشيرازي فيمن يريد إنقاذ بلاد الإسلام وممارسة التغيير أن يكون عالي الهمة، ويستشهد بمقولة الإمام علي (عليه السلام): «المرء يطير بهمته كما يطير الطير بجناحيه», ويطلب منّا أن نقتدي في ذلك بسيد الخلق والمرسلين (صلى الله عليه وآله) الذي مدحه الشاعر بقوله:
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
ويعيب على البعض تدني هممهم، أو اهتمامهم بالتنظير بعيدًا عن العمل، وينقل في هذا الجانب حكاية طريفة، إذ يقول: «رأيت إنسانًا في اضطراب العراق أيام الشيوعيين وقلت له: ألا تعمل؟ فقال: إني أديت رسالتي، ولما تحققت عن ذلك تبين أنه قد ألف كتابًا من مائة صفحة في شأن من الشؤون الهامشية فتصور أنه قد أدى رسالته بهذا الكتاب الصغير الهامشي بينما كان اللازم عليه أن يؤدي خدمة كبيرة لما كان يتمتع به من مكانة اجتماعية رفيعة».
بل إنه يمقت من يعيش حالة القناعة بما أَنجز، ويحسبه كمن يعيش بلا هدف، وبعبارته: «إذا كنت راضيًا بما أنت فيه، لم يكن لديك هدف»! فهو يرشدنا إلى أننا مهما عملنا؛ فإننا نكون كمن أدى بعض الواجب الذي افترضه الله عليه، وخطى الخطوة الأولى في الطريق الصحيح.
وفي سياق تشجيع السيد الشيرازي للآخرين ورفعه لهممهم أنقل لكم المقطع التالي، يقول سماحته في تقديمه لكتاب «الصوم مدرسة الإيمان»، الصادر عام 1394هـ، وهو باكورة المؤلفات المطبوعة للشيخ حسن الصفار -وقد كتب بتشجيع ورعاية من السيد الشيرازي-: «أرجو أن يكون [هذا] الكتاب فاتحة ما لا يقل عن مائة كتاب، في مختلف الجوانب الإسلامية، فإن المسلمين -اليوم- في فقر مدقع من جهة الإعلام والنشر والتأليف، بينما الفئات المضادة للإسلام أخذت بهذه الأزمة، فخنقت الإسلام حتى في وطنه وبين أهله، ولذا نرى إن أكثر شباب المسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا الاسم. فالواجب تضافر الجهود المخلصة لإنقاذهم وإنقاذ سائر المسلمين».
والآن، ونحن في عام 1431هـ، حين نتصفح قائمة مؤلفات الشيخ حسن الصفار، نجد أنها 107 كتابًا، وربما زادت قليلاً! فالسيد الشيرازي، لم يكن عالي الهمّة فحسب، بل غرس هذه الثقافة؛ فيمن ربّاهم ورعاهم.
بمثابة خاتمة
السيد الشيرازي في مشروعه التربوي، يدعو الأمة للمداومة على العمل المستدام، والابتكار الدائم في الأساليب والطرق، كما يؤكد على ضرورة أن يكون القادم أفضل من السابق، اقتداءً بمقولة الإمام علي (عليه السلام): «من كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون».
وقد كان نعم العامل بمقولة: «العمل الدائم»، التي سطرّها في كتابه: «نحو يقظة إسلامية»، حين قال: «من اللازم على من يريد العمل للإسلام أن يهيئ نفسه للعمل الدائم، الذي لا يعرف الكلل والوقوف، وفي القرآن الحكيم: ﴿ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ ﴾[الانشقاق:6]. فالكدح مستمر إلى أن يفارق الإنسان الحياة».
كما أنه لم يعرف طعمًا للراحة، حتى إن جدوله كان مزدحمًا بالأعمال واللقاءات في اليوم الأخير من حياته المباركة. فبعد أن ألقى محاضرته الأخيرة في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، توجه إلى غرفته ليكتب كتابًا جديدًا عن السيدة الزهراء (عليها السلام)، ودخل في غيبوبته الأخيرة، بعد أن كتب ورقتين عن أمه الزهراء (عليها السلام) والقلم لم يبرح يده المباركة!