ثورة المُختَطَف واختطاف الثورة
يُرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدست روحه) الثورة، في حديثٍ له عن أسس الثورة النبوية، إلى عاملين مختلفين(١)، حكما الثورات التي قامت عبر التاريخ. العامل الأول، هو: "ما تزخر به قلوب المستضعفين والمضطهدين من المشاعر الشخصية المتقدة بسبب ظلم الآخرين واستهتارهم بحقوق الجماعة ومصالحها".
والعامل الآخر، هو: "الإحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحق والقسط والإيمان بعبودية الإنسان لله التي تحرره من كل عبودية، وبالكرامة الإنسانية، وهذه المشاعر تخلق القاعدة التي تتبنى تصفية الاستغلال، لا لأنه يمس مصالحها الشخصية فحسب بل لأنه ايضاً يمس المصالح الحقيقية للظالمين والمظلومين على السواء".
ويرى سماحة السيد، أن: "الأساس الأول لا يمكن أن ينجز سوى ثورة نسبية تتغير فيها مواقع الاستغلال". أما الأساس الثاني، فهو وحده: "الذي يشكل الخلفية الحقيقية للثورة والرصيد الروحي القادر على جعلها ثورة بدلا عن تجميدها في منتصف الطريق"، بحسب تعبير السيد.
ويربط السيد الشهيد، العامل الثاني بالتربية، والتربية بالوحي والنبوة، ويؤكد ذلك الاتجاه بشكلٍ واضحٍ في نهاية المطاف، بالقول: "وعلى هذا الأساس نؤمن بان الثورة الحقيقة لا يمكن أن تنفصل بحال عن الوحي والنبوة"، لتتضح لنا معالم رؤية الشهيد الصدر هنا، دون لبس.
وهذا الكلام خطيرٌ، ومهمٌ جداً، ويمكن أن يعيدنا لأصل جدوائية وفائدة الثورات. فالثورات في كثيرٍ من الحالات، ربما كانت مجرد حالات احتقان واختناق، ناشئة عن الظلم ومشاكل المنافسة وتوزيع الثروات والخيرات، ثم انفجارات تابعة غير واعية وغير مدروسة غالباً، وتنفيس فقط لا غير. وكشهادة على ذلك، فكم من ثورة واعدة، قد احتاجت لثورات مضادة؟! وكم من ثورة صاعدة، قد ثارت واشتعلت عبر التاريخ، على أنقاض الثوار، والثورات المفلسة، السابقة لها، لتكون مقاومة لها؟!.
وهنا، فلتقترب المسافات, بين ثورة الفاتح من سبتمبر، والثورة الليبية المعاصرة، كنموذج، لتذكرنا بتلك الهواجس والتساؤلات التي يجب أن تبقى دائماً حاضرة في الذهن، لتطارد وتلاحق كل الثورات، التي طالما ألهبت حماس الجماهير عبر التاريخ وأشعلت قوتها، ثم انتهت تلك الثورات في النهاية، لتكون ثورات فاشلة.
ولو عدنا هنا لكلام السيد الصدر، فسنجد الشهيد (قدست روحه)، يتكلم في العامل الثاني، عن ضرورة الإعداد القيمي للثورة، وعن ضرورة مواكبة الثورة بتهذيب وتنوير قيمي، يرى سماحة السيد أنه، مهم لحفظ الثورة ونجاحها وعدم توقفها في منتصف الطريق. ونحن نتفق هنا مع الشهيد (قدست روحه)، في أهمية هذا السياق من الإعداد والمواكبة ومحوريته، لنجاح الثورات.
لكن سماحة السيد (تقدست روحه)، يربط هنا نجاح الثورات، بعاملٍ ديني روحي، هو اتصال ذلك التهذيب القيمي بالعامل الغيبي، وبالله تقدست أسماؤه، وبالنبوة والوحي، كما هو واضح. وهذا ربما كان صحيحاً ومفهوماً في خصوص الثورة النبوية المشرفة، التي قامت على أساس لا يرتاب فيه أي أحدٍ من المسلمين، وهو الارتباط القطعي والأكيد للنبي وهديه وتعاليمه وقيمه، بالسماء.
أما اليوم، في ظل غياب النبي ، والسبب المتصل مباشرة بالسماء، وتعدد مفاهيم القيم والعدالة والعبودية في تصوراتها الدينية المتنوعة في العصر الحديث، فالعنصر الأخير بالتأكيد ليس متوافراً، بل هو غائبٌ حتماً بشكلٍ أكيد، بسبب حاجاتنا البشرية الواضحة للتفسير والتأويل البشري ومتاهاته - وطبقوا هذا الكلام على واقع جميع الثورات العربية المعاصرة وشعوبها -. فهنا، سيغدو الإنسان، ذلك المخلوق القاصر، وتغدوا الثورات، بلا شك، عرضة للاختطاف والتلاعب، وتغيير المسارات. بل، ويمكن بحسب كلام السيد (رح)، أن نستنتج فشل جميع الثورات العربية المعاصرة، أو توقفها في منتصف الطريق، ووصولها لنقطة التجمد، إذا غاب عنها الفكر الشيعي الأصيل، والمفهوم الحقيقي للدين والعدل والقيم والصلاح والإصلاح، المنطلق من رؤى دينية خاصة. هذا، إذا كنا نؤمن هنا طبعاً، بأن هناك من يمكن أن يصل - لا بالفكر المجرد فقط وحده، وبالمثاليات - لخاتمة المطاف ونهاية الطريق.
وهنا سيطرح سؤالٌ حيوي نفسه، (فما هو الحل؟!).
والجواب هنا، سهلٌ بسيطٌ، لكنه بحاجةٌ لوعيٍ ونضج، وهو كامنٌ في العودة لقيم الحق والعدل الأرضية الواقعية، التي يدركها كل البشر، ويمكنهم التناقش والتجادل حولها بحرية، وصياغتها وفق متطلبات الحياة واحتياجاتها ومعطيات الواقع وتنوع المراحل البشرية المختلفة، بعيداً هنا عن ترهيب وتخويف وتخوين أدعياء الدين والمختطفين له ولأهله. الذين جعلوا الدين وأهله في كثيرٍ من الأحيان، ألعوبة بأيدي السياسيين، أو ألعوبة بأيدي أهوائهم ومصالحهم ورغباتهم وغرائزهم وشهواتهم، البدنية والنفسية.
وهذا الكلام السابق هنا بالتأكيد، لا يتناقض مع الدين نفسه، إنما يمكن أن يتناقض مع بعض تلك الأفكار الخاطئة، التي قد تدعي أنها قادرة على أن تصف الدين، وأن تتسلل لأعماقه. لأن الدين من صميمه وجوهره، العدل والعلم، الذين يمكن أن يدركهما فكر البشر. وليس من صميم الدين، ذلك الجهل والتجهيل، والظلم باسم القيم، والعدل المنزه عن النقد والعقل.
ولذا، وبسبب وجود الالتباسات السابقة، فإن من السيء جداً حقاً، أن تتقدم الثورات، على أسئلة الثورات، وعلى الإعداد والتخطيط لها. وإن من السيء جداً كذلك أيضاً، أن تغيب الأجوبة على تلك الأسئلة في المراحل اللاحقة، أو أن تنبع أجوبة تلك الثورات، من حالات ميتافيزيقية ما ورائية غيبية غير متوافرة، تجعل الثورات وأهلها في نهايتها، عرضة للتدجين والاختطاف والمخادعة.
وهذا الكلام السابق، يكشف لنا هنا طبعاً بوضوحٍ، كما أسلفنا، عن أهمية الإعداد للثورات وتحصينها ومواكبتها بالتحصين، الواقعي المنطقي، ذلك الفعل الذي غاب عن واقع المجتمعات العربية والإسلامية فترات متطاولة، ولازال بنسبة كبيرة كذلك. وكل ذلك طبعاً، يمكن أن يتم عبر الثقافة الحقوقية الواعية والناضجة ونشرها، وعبر كل ما يؤدي إلى مساراتها، ويرسخ ويعزز من وجودها.
ولذا في الأخير هنا، فإن الثورة الحقيقية هنا في نهايتها، هي ثورة على الذات وجهلها بحقها وواجباتها. وثورة على تدجينها وتجهيلها، باسم القيم والدين والحق والحقيقة. وثورة أيضاً على نزوعها للانفجارات العاطفية المجردة، نتيجة تعرضها للظلم، دون أن يواكب ذلك، أي تفكير وتخطيط ووعي، وقيم أرضية واقعية، قابلة للمساءلة والمحاسبة والمناقشة، والجدال المنطقي المثمر. هذا ... والسلام.